انتظمت سيارات الأمن وهي ملأى بالإخوة محاطة بسيارات التدخل السريع فانطلقت في موكب رهيب، وجمهور غفير قد اصطف على جنبات الطريق يتابع ما يحدث بحزن وأسى. نظرات تقرأ فيها التعاطف والتبرم والسخط على سياسة بدائية يقودها مخزن مارق، كيف لا وهم يشاهدون بأم أعينهم أسلوبا همجيا واعتداءات كانوا يخالونها تقتصر على قوات الاحتلال بفلسطين.
كانوا يعرفون هؤلاء الفتية المعتقلين المتميزين بأخلاقهم العالية، وخدماتهم الجليلة المقدمة للطلبة وأبناء الحي على السواء، ونشاطهم الدؤوب داخل الساحة الطلابية وفصيل طلبة العدل والإحسان، ويحبونهم ويقدرونهم، فطبيعي جدا أن يتعاطفوا ويتألموا لما أصابهم من أذى وظلم واعتداء.
وطيلة المسافة التي تفصلنا عن مركز الشرطة المخصص للتعذيب ونحن نتعرض للشتم والضرب بالعصي فأصيب العديد من الإخوة بجروح في رؤوسهم، حتى إن أحد الإخوة أصيب بجرح غائر، وآخر- الأخ ح م- كادت تبتر أذنه الخ.
وبينما نحن في طريقنا إلى هذا المركز نعذب ونجلد ضدا على القانون والمواثيق التي صادق عليها المغرب، كان الحجاج -الحاج هو الاسم الذي يحلو للمحققين أن يطلقوه على أنفسهم- في مخفر الشرطة ينتظرون قدومنا بشغف كبير إذ تفتقت عبقريتهم على إبداع أساليب جديدة من التعذيب والتنكيل لم نكن قد سمعنا عنها من قبل حيث افترشوا جزءا من أرضية الطابق السفلي بحصى حاد، وبمجرد أن وصلنا تعالت صيحاتهم وصراخهم في وجوهنا، وبدأت حصة أخرى للتعارف تمتزج فيها اللكمات والضرب بالعصي إلى أن تم جمعنا في الأرضية المفروشة بالحصى، وأجبرنا -أزيد من ستين طالبا- على السجود عليها مستقبلين وجهة واحدة كأننا في صلاة، وأحطنا برجال الأمن السري وقوات التدخل السريع المسلحة بالهراوات، وأكرهنا على التزام الصمت المطلق، ولبثنا على تلك الحالة 13 ساعة، من مساء يوم الجمعة 01/11/1991 إلى صباح يوم السبت 02/11/1991، دون شراب ولا طعام ولا نوم. واضطر بعضنا لقضاء حاجته في مكانه. لم يسمح لنا بأدنى حركة فاضطررنا إلى الصلاة -صلوات المغرب والعشاء والصبح- أفذاذا على نفس الهيئة والحالة.
وطيلة الليل وزبانية المخزن” يطربوننا” بكلام ساقط، والعصي تهوي على ظهر كل من أخذته سنة من النوم وحاول الاتكاء على جنبه دون إرادته، فأدميت أيدي وأرجل معظم الإخوة بسبب حدة الحصى والضرب الهمجي الذي ظلت آثاره بادية على أجسادنا مدة غير يسيرة. وجرح آخرون في رؤوسهم، فالحجاج لا يضرهم أن يصاب المعتقل بعاهة، أو يقتل أو يموت.
في حين ظل الإخوة يرددون حسبنا الله ونعم الوكيل، ويدعون الله تعالى ويذكرونه.
فذكر الله نور يطرد كل غم أو فزع أو خوف قد يتسرب إلى القلب ألا بذكر الله تطمئن القلوب. ونحمد الله تعالى أن لطف بنا، ورفع عنا كل ما كنا فيه من ألم وعذاب وقهر، وجعله بردا وسلاما، لأنه عز وجل يدافع عن الذين آمنوا، فهو سبحانه يحمل عنهم عند نزول الابتلاء ما لا يقوون على تحمله، فيخفف عنهم، ويغمرهم بلطفه وسكينته. يجيب المضطر إذا دعاه، وينقذ الغريق إذا ناداه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
لطف الله بنا، وأبرد علينا، وكنا على يقين أن الابتلاء درب الصالحين، وقد جلد وعذب قبلنا المرسلون والأئمة والأولياء، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن هذه الآلام مهما بلغت شدتها فلن توازي عشر المعشار مما أصاب المسلمين في فجر الإسلام أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب.
هذه الليلة الأولى التي قضيناها داخل مخفر الشرطة ساجدين معذبين ستظل راسخة في الذهن، وشاهدة على معاملة دنيئة وقذرة ومهينة تنم على قساوة قلوب هؤلاء الحجاج الجلادين ومن يقف وراءهم، وتدل على أنهم ليسوا من طينة البشر.
ليلة كانت مباركة بالنظر إلى روحانية الإخوة وقلوبهم الصافية التي كانت متعلقة بالله عز وجل يدعونه، ويذكرونه، ويعظمونه، ويفوضون أمرهم إليه، ويرجون لطفه وثباته، وقبول ابتلائهم وجعله في ميزان حسناتهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحا قريبا.
والحقيقة أن الإخوة أبدوا ولله الحمد ثباتا لاحظه الجلادون أنفسهم، وهو ما استفزهم، وزاد من حدة بطشهم. لا يدركون سر ذلك الثبات والرجولة لأنهم لم يفهموا أن هؤلاء الفتية صنعتهم تربية العدل والإحسان التي تربط الإنسان بالله فلا يخاف في الله لومة لائم. تربية، ولا نزكي على الله أحدا، تنشئ أجيالا قادرة على صناعة الحياة والتاريخ تنشد مع خبيب بن عدي، وهو على مشنقة الموت:ولست أبالي حين أقتل مسلما
على أي جنب كان في الله مصرعي.
فهذه الطريقة التي اتبعها المخزن لاعتقالنا من داخل بيوتنا، و”حفاوة” استقبالنا بمركز الشرطة تعبر بدون شك على وحشية مخططيها ومنفذيها، ونزعة انتقامية لديهم، وتهدف إلى إدخال الرعب على المعتقل، وتهييئه لمرحلة لاحقة أشد وحشية، وهي مرحلة التحقيق التي سنتناولها في لقاء مقبل إن شاء الله.
وقبل أن أستودعكم أود الإشارة إلى أن سرد هذه المعاناة والتعذيب يصادف حلول ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان، وهي مناسبة ليتعرف العالم على بعض ما يزخر به سجل المخزن من مأساة، وحقيقة شعاراته الزائفة التي تردد في كل مكان.
كما يتزامن مع إعلان هيأة الإنصاف والمصالحة عن نتائج أعمالها. هيأة تصالحت مع الجلاد، وزعمت إنصاف المظلوم إلا مظلوم العدل والإحسان وفق ما حددته التعليمات التي سطرها المخزن. لذا فهي لن تلتفت إلى مثل هذه المعطيات والحقائق، ولا تعنيها إلا أن يشاء المخزن.
لكنها ستظل حقائق تاريخية لن يضرها اهتمام المخزن ومؤسساته من عدمه.هي مأساة تعد جزءا من الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها رجال ونساء العدل والإحسان ولا يزالون. معاناة هي بمثابة ضريبة تؤديها العدل والإحسان في شخص معتقليها وشرفائها ومناضليها نيابة عن الشعب كي ينعم يوما ما بحياة إيمانية كريمة، ومستقبل زاهر مشرق خال من الظلم والاستبداد والمقاساة يفخر به ويفرح بدل هذا الواقع المخزني المعيش المخزي اللئيم. مأساة قد يراد لها أن تبقى طي الكتمان، ونحن نريد لها أن يعرفها العالم.
المعتقل السياسي مصطفى حسيني
أحد معتقلي العدل والإحسان الإثني عشر
حرر بالزنزانة 5 بسجن فاس