لعلّه من نافلة القول أن التعليم هو رافعة رقي الأمم، بما هو تأهيل للإنسان ليكون لبنة بناء في إطار مشروع مجتمعي يتناغم وهوية المجتمع ومنظومته القيمية، فلا عجب أن يحظى بما يستحق من أولوية واهتمام، بدءاً من تسخير الإمكانيات المالية، وانتهاءً بالوضع الاعتباري لأطر التعليم نساء ورجالا؛ كيف لا ولن تقوم لأمة قائمة، ولن تقوى على أن تحجز لنفسها مكانا بين الأمم، ولن تنال تقديرا أو احتراما وهي كليلة تتسول الطعام وتعيش على المساعدات والقروض التي ترهن سيادتها قبل مقدراتها الاقتصادية.
تُرى، ونحن على أبواب دخول مدرسي جديد، ما إسهام تعليمنا في تحصين منظومتنا القيمية حفاظا على شخصيتنا الحضارية؟ ثم ما إسهام تعليمنا في توطين التكنولوجيا باعتبارها مفتاحا للتحرر من الذيلية والتبعية لغرب أناني لا يقبل منافسة تهدّد مصالحه الاستراتيجية؟ وأخيرا، ما مدى إسهام تعليمنا في استنبات نموذج تنموي يضمن كرامة المواطن ويحرره من نير الهشاشة وذل السؤال؟
أسئلة وغيرها تحيل على أن تعليمنا مرهون بقرار سياسي أشبه بالسؤال الوجودي: نكون أو لا نكون، وهذا معناه أن معركة إصلاح التعليم مصيرية، إذ لا تغيير إلا بوعي، ولا وعي إلا ببناء إنسان مستقل إرادةً وتفكيراً، ولا بناء لهذا الإنسان إلا بمنظومة قيمية تعزز فيه الانتماء وتحفزه على البذل والتضحية؛ وحيث إن الاختيارات التي ترتكز عليها المنظومة التعليمية القائمة تسعى علناً أو من طرف خفي للتمكين لثقافة الانحلال والتجرد من كل قيمة نبيلة، مثلما “تسعى” لتكريس السطحية المعرفية من خلال اعتماد مناهج دراسية كمية تعتمد على تكديس المعارف في الأذهان على حساب تنمية الذكاء والابتكار، فلا غرابة أن تخطئ المنظومة مواعد الاستحقاق وتغيب جامعاتنا باعتبارها فضاءً للبحث العلمي عن قوائم التميز.
إن واقع التعليم يسائل الجميع: إلى متى سيظل تعليمنا عبئا على المشروع التنموي والتحرري للمجتمع؟ ألم يحن الوقت بعد عقود التردي ومسلسل الإصلاحات ليضطلع التعليم برسالته التحررية للإنسان والمجتمع؟ ألا يبدو أن التعليم يجب أن يكون أم القضايا التي تجتمع في الترافع عنه كل القوى المجتمعية الحية؟ وإلى متى سيستمر هذا العبث وهدر الأموال على تعليم سرت بفساده تقارير المجلس الأعلى للحسابات، دون جدوى أو طائل؟
إن واقع التعليم لا تختزله الكلفة المادية التي تئن من ثقلها الأسر، مثلما تئن من عبئها خزينة الدولة، بل إن واقع التعليم ومن خلال مسار انحداري يهدد المجتمع استقرارا وسلما اجتماعيا وأمنا غذائيا ورسالة حضارية، وهو ما يقتضي تعبئة جماعية تترافع من أجل القطع مع سياسات العبث في قطاع غاية في الحيوية، والسعي الجدي لإصلاح تعليم يفتل في حبل عزة المجتمع وتحرره، بدل أن يكون خادما للاستبداد طمسا للهوية وتبليدا للفكر ونشرا لثقافة الميوعة والتحلل من كل قيمة.
رحم الله تعالى جيل مقاومة الاحتلال والاستعمار الذين وعوا أن ساحة التعليم لا تقل أهمية عن ساحة التدافع المسلح، فاستثمروا جهودا طيبة في تعليم خصوصي مقابل لتعليم الاحتلال بناء للوعي السليم، وتكريسا للولاء والانتماء إلى هوية وطنية استرخصت الغالي والنفيس دفاعا عن حرية الوطن واستقلاله. فبالتعليم النافع تحررت شعوب وارتقت أمم.