يقول الله تعالى في سورة الأعراف {وَالذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إنَّا لَا نُضِيعُ أجْرَ المُصْلِحِين} الآية 170 هذه الآية الكريمة فيها ثناء على الفئة المؤمنة من بني إسرائيل الذين تمسكوا بكتابهم التوراة وكانوا عابدين يقيمون الصلاة بينما نقض قومهم عهدهم مع الله وكانوا يرتكبون المعصية ويقولون سيغفر لنا. هذه الفئة المؤمنة الصالحة المصلحة تكفل الله بإعطائهم الأجر والثواب. وبما أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإن الآية تخص كل المخاطبين بها في كل زمان ومكان.
ولقد أجمع أغلب المفسرين على أن كلمة يُمَسِّكُون الواردة في الآية الكريمة هي بمعنى يَتَمَسَّكُونَ كما أشارت إلى ذلك المعاجم اللغوية العربية، ففي معجم المعاني الجامع نجد: مَسَّكَ يُمَسِّكُ تَمْسِيكاً. مَسَّكَ بالشيء: أخذ به وتعلق.
جاء في تفسير القرطبي لهذه الآية الكريمة والذين يُمسكُونَ بالكتاب: أي بالتوراة أي بالعمل بها، يقال مَسَّكَ به وتَمَسّك به أي استمسك به، وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر يُمْسِكُونَ بالتخفيف من أَمْسَكَ يُمْسِكُ، والقراءة الأولى أولى لأن فيها معنى التكرير (…) التكرير التكثير للتمسك بكتاب الله تعالى،ودينه، فبذلك يُمْدَحُونَ فالتمسك بكتاب الله والذي يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك)، و يقول سيد قطب في تفسير هذه الآية الكريمة: (إن الصيغة اللفظية يُمَسِّكُونَ تصور مدلولا يُحس ويُرَى إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت 1 فالتمسيك بالكتاب بهذا المعنى يعني التمسك والاعتصام به علما وعملا، سلوكا وخلقا والعلم بما فيه من الأحكام والأخبار، والعمل بما فيه من الأوامر والانتهاء عن النواهي، واتخاذه منهج حياة، يقول المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “وكتاب الله هو الحبل المتين وهو الذكر الحكيم، فتربية جند الله ترتكز على الاستمساك بهذا الحبل بهذه العروة التي من تمسك بها نجا 2 ويوضح رحمه الله تعالى نتائج هذا الاستمساك فيقول: “القرآن ذكر يربي الإرادة، والقرآن شريعة تضبط علائق التنظيم والقرآن دستور للحكم والعلم وتغيير العالم” 3 و قد ظهر أثر هذا الاستمساك في الجيل القرآني الأول جيل الصحابة رضي الله عنهم، يقول الإمام رحمه الله: “بالقرآن كانوا القوة التي حطمت باطل الشرك وبه أقاموا العدل” 4 وإلى جانب معنى التمسك والاعتصام تشتمل كلمة يكُون على معنى الدعوة إلى التمسك بالكتاب، فهي فعل مضارع من مَسَّكَ وهو يتعدى إلى المفعول به، مَسَّكَ المُنْقِذُ الغريق بالحبل أي دعاه إلى أن يمسك به لينجو، ومفعول يُمَسكُونَ في الآية محذوف و التقدير يُمَسِّكُونَ قَوْمَهُمْ بالكتاب أي يدعونهم إلى التمسك به وحسن فهمه وتطبيق ما فيه” 5، ويقول محمد أبو زهرة في كتابه “زهرة التفاسير: ( ومعنى التمسك به الإذعان لأحكامه والدعوة لهذا الإذعان والعمل به… والتمسك به يتضمن معنى الدعوة إلى الاستمساك).
وعليه فإنه بعد إحسان التمسك بكتاب الله وتوثيق الصلة به بدءا من تعظيمه وحسن تلاوته والعمل على التخلق به والوقوف عند أمره ونهيه وسعيا إلى تحكيمه والاحتكام إليه، بعد هذه الخطوة “نخطو إلى تمسيك الآخرين بالقرآن من خلال الدعوة إلى القرآن والحركة بالقرآن والانتشار بين الناس بالقرآن والانطلاق معهم من القرآن ندعوهم ليتمسكوا بالقرآن لينجوا ويفوزوا بعدها” 6
وهذا ما عبر عنه الإمام المرشد رحمه الله بوصف أن يكون كل واحد منا مدرسة قرآنية متنقلة عبر الأجيال، يقول رحمة الله عليه “ولكل من عظم كتاب الله وخدمه حفظا وتلاوة وعمل بأمره ونهيه نصيب من ولاية الله ولخير الأمة من تعلم القرآن وعلمه إذا كان مع التعلم والتعليم تقوى” 7
وخلاصة ما تقدم؛ فإن التمسيك بالكتاب يشمل معنيين مترابطين متلازمين؛ التمسك به مع دعوة الناس إلى التمسك به.
وبالرجوع إلى تتمة الآية الكريمة والذين يُمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين، نستخلص مجموعة من المعاني والدلالات منها أن التمسيك بالكتاب ورد مقترنا بإقامة الصلاة وخصها الله بالذكر لأنها من أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات” 8.
ودل هذا الاقتران على حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملا، وإقامة الشعائر عبادة، هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني، ترك الاستمساك بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص كالذي كان يصنعه أهل الكتاب” 9.
ونختم موضوعنا بالتأكيد على أن التمسيك بالقرآن الكريم استمساكا واعتصاما به ودعوة إلى الاستمساك به، هو سبيل الصلاح والنجاة، يقول الإمام المرشد رحمه الله تعالى: “إن القرآن كلام الله، الله الذي يسير العالم ويحكم ما يريد… ونحن مغلوبون منهوبون مقهورون بما كسبت أيدينا، ورجوعنا لشرع الله نعظمه ونقدسه ونعمل بمقتضاه يسدد خطانا على صراط الله المستقيم المؤدي للحسنيين” 10.
[2] المنهاج النبوي ص 170.
[3] نفسه.
[4] القرآن والنبوة ص 14
[5] مجلة بصائر الالكترونية / بصائر قرآنية.
[6] مجلة بصائر الإلكترونية / بصائر قرآنية.
[7] مجلة بصائر الإلكترونية / بصائر قرآنية.
[8] تفسير السعدي.
[9] في ظلال القرآن، سيد قطب المجلد الثالث، ص 1388.
[10] ياسين، عبد السلام، القرآن والنبوة، ص:12.