أصدرت الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان وثيقة سياسية تفصيلية لمقترحاتها لتدبير الشأن العام بالمغرب تجاوزا لاختلالاته، ووضعا للبلد على سكة التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستعصية منذ عقود. وجاءت الوثيقة السياسية، التي صدرت يوم 6 فبراير 2024، بعد قرابة ربع قرن من تأسيس الدائرة السياسية التي كلفتها الجماعة بتدبير ما يسميه الإمام ياسين “بعض شأننا”، وبعد قرابة أربعة عقود من تأسيس جماعة العدل والإحسان، وبعد نصف قرن من “المقترحات الأولى” في رسالة “الإسلام أو الطوفان“.
وبالمقابل تأتي الوثيقة السياسية هاته بعد ممارسة سياسية ودستورية رسمية قاربت العقد السابع للنظام السياسي المغربي في شكله الحديث بعد الاستقلال؛ عقودٌ استعصت فيها التنمية السياسية بالوصفات الرسمية، فقد عانى المغرب من مشاكل بناء الدولة العصرية الحديثة، بفعل تناقض رهانات الفاعلين بعد الاستقلال، وسيادة منطق الهيمنة، والرغبة في احتكار السلطة دون تقاسمها، وغياب أسس التوافق على أسس النظام السياسي وشكله. وهذا ما أدخل البلد في نفق لم تسعفه كل عمليات التحديث السياسي المحدودة التي انخرط فيها النظام السياسي للخروج منه.
فما هي تجليات هذه التنمية المستعصية في النظام السياسي المغربي؟ وكيف قدمت وثيقة العدل والإحسان معالم تنمية سياسية تخرج البلد من نفقه المسدود؟
1. النظام السياسي المغرب والتنمية السياسية المستعصية
ظهرت ملامح النظام السياسي المغربي الحالي بعد الاستقلال باحثا عن بناء نظام حديث بعد جلاء الاستعمار دون أن يسعى للتخلص من موروثات النظام السلطاني، بل سعى دائما إلى بناء نظام هجين أنتج سلطوية تقليدية مسنودة بآليات ديمقراطية حديثة بدون صلاحيات حقيقية. وهذا ما أفرز ممارسة شكلانية تنتهي دائما إلى تصلب النظام السياسي؛ تصلب تفقد معه كل مرة إجراءات الإنعاش المرحلي للنظام السياسي مفعولها، ولتبدأ الأزمة بالتجدد مسنودة من بيئة النظام السياسي المحلية أو الإقليمية لتعيد طرح إشكالية تنمية سياسية لا تريد أن تأتي.
· تجربة إرساء نظام الحكم: إخفاق مدخل الميثاق التأسيسي
عرف المغرب أولى خطوات إرساء نظام الحكم بعد استقلاله سنة 1956، بل ومباشرة بعد عودته من المنفى في 16 نونبر 1955 أعلن الملك محمد الخامس اختيارَ المغرب للنظام الديمقراطي نظاماً للحكم. وقد صاحب هذا المدخل التأسيسي طموح لوضع أسس تنمية اقتصادية واجتماعية موازية مثلتها الخيارات الاقتصادية والتنموية لحكومة عبد الله إبراهيم قبل إعفائها.
غير أنه هذه التجربة الأولى لم تحقق طموحاتها واصطدمت بتناقض تصورات الفاعلين (الملكية والحركة الوطنية) لفحوى وشكل هذه التنمية السياسية والاقتصادية، انتهت بفرض الملكية لتصورها لشكل الحكم بإعلان دستور 1962، وما تبع ذلك من اضطرابات سياسية واجتماعية تمثلت في حالة الاستثناء 1965 وما أعقبها من جمود سياسي وتعثر اقتصادي واستفحال المعضلة الاجتماعية في السبعينات والثمانيات من القرن الماضي رغم عديد الإصلاحات الدستورية (دستوري 1970 و1972) والاقتصادية (التقويم الهيكلي وتداعياته الاجتماعية) التي شهدتها المرحلة.
إن فشل هذه التجربة الأولى كان مرده إلى سيادة منطق الهيمنة لدى الفاعلين الأساسيين في لحظة سياسية تأسيسية حساسة كانت تقتضي التوافق على مقومات وأسس النظام السياسي من خلال صياغة ميثاق تأسيسي يكون المقدمة لا النتيجة.
· تجربة التناوب: إخفاق المدخل السياسي
دخل النظام السياسي المغربي تجربة التناوب مع المعارضة وهو مسكون برهان التنفيس عن نظامه السياسي المرهق بأزمات متتالية، ورهان نقل سلس للعرش، وذلك عبر إشراك أحزاب المعارضة في تدبير الشأن الحكومي، بضمانات ملكية لا بقواعد دستورية ولا على أساس نتائج الانتخابات، وكانت حكومة التناوب (1998 -2002) التجلي الأساس لهذه الرغبة في تجاوز لحظة السكتة القلبية عبر مدخل سياسي.
لم يكن التناوب السياسي في الحالة المغربية قناعة ديمقراطية ولم يأتِ إفرازا طبيعيا لحاجة ديمقراطية، بل ظهر نتيجة أزمات في بيئة النظام السياسي، مما حوله إلى فضاء للصراع بين تمثلات ورهانات الفاعلين الأساسيين فيه. لقد حكمت التناوب رغبة في تحقيق تسوية سياسية مع المعارضة لتجاوز أزمة النظام السياسي، وتجديد أسس شرعيته بالبحث عن شرعية الإنجاز عن طريق بديل حكومي وليس بديل ديمقراطي.
وهكذا سيُوضع حدٌّ لهذه التجربة بعد تعيين وزير أول خارج نتائج أول انتخابات العهد الجديد وخارج الأحزاب السياسية، ليبرز بعد ذلك رهان النظام السياسي بالانتقال من الرهان على التنمية السياسية إلى تنمية ترتكز على الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي. لكن محدودية إصلاحات العهد الجديد أدت إلى تصلب جديد في النظام الدستوري مما جعله يقع في دائرة الاحتجاجات التي عمت بعض الأقطار العربية سنة 2011 لتعود معها إشكالية مداخل التنمية السياسية المتمنعة عبر مدخل الإصلاح الدستوري هذه المرة.
· تجربة الإصلاح الدستوري 2011: إخفاق المدخل الدستوري
لقد غابت عن تجربة الإصلاح الدستوري لسنة 2011 الإرادة السياسية لتحول ديمقراطي حقيقي، بل سكنتها نفس هواجس التجارب السابقة، وهي كسب تحدي الأزمة التي ظهرت في بيئة النظام السياسي والتي تجسدت في دينامية احتجاجية غير مسبوقة، رفعت مطالب جريئة من قبيل دستور ديمقراطي شكلا ومضمونا، وفصل حقيقي للسلط، وإلغاء الفصل 19. لكن ذات الهواجس، ونفس الإرادة السياسية الغائبة ستبرزان جليا في تنزيل مقتضيات هذا الدستور.
إن قراءة الدينامية التي صنعت التعديلات الدستورية بالمغرب 2011 تظهر أن الإصلاح الدستوري يعتبر موردا مهما في يد النظام السياسي لتدبير الأزمات السياسية التي تواجه نظام حكمه. فالتنقيحات الدستورية عموما تُمكِّن النظام السياسي من تجديد العلاقة مع المعارضة السياسية وتخفيف التوترات مما كان يفضي دائما إلى تجديد وضع النظام السياسي وإعادة إنتاجه. وهذا ما عكسته الممارسة بعد أزيد من عقد من إقرار دستور 2011 وطغيان التأويل السلطوي للفصول الفضفاضة في الدستوري، ما أفقدها تلك الجرعة من الأمل التي صاحبت هذا المدخل الدستوري وشكلت انتخابات 2021 بمثابة إعلان غلق قوس “مناورة” دستور 2011، ليعود بعدها المشهد السياسي إلى رتابته المعهودة في انتظار بوادر حقيقية لرغبة حقيقية في تحقيق تنمية سياسية حقيقية.
2. معالم التنمية السياسية في الوثيقة السياسية للعدل والإحسان
لخصت وثيقة العدل والإحسان أزمة النظام السياسي المغربي في “تغول السلطوية، وتمادي الحاكمين في إهدار كرامة الإنسان، ومصادرة الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، وما يرتبط بذلك كله من تردي الأوضاع المعيشية، وتفشي الفساد، وانحلال الأخلاق، وإفلاس السياسات المتبعة وغيرها من المظاهر التي تعكس وصول بلدنا إلى حالة غير مسبوقة من الجمود والانحباس، مما يهددنا بانهيار عام وتصدع شامل للنظام الاجتماعي”.
وتعلن بالمقابل أن هذه الوثيقة لا تحمل حلّاً سحريا لمعضلات التنمية السياسية المستعصية في النظام السياسي المغربي، بل ترمي أن تكون خطوة على طريق الإنقاذ إلى جانب باقي مبادرات الفضلاء والغيورين لتجنيب بلادنا مختلف الأخطار المحدقة بها. وهي بذلك تضع الحوار الوطني الشفاف والصريح بين القوى الحية ونخب البلد مقدمة أساسية لصناعة ميثاق وطني يحسم اختيارات الحكم، ويبلور شكل النظام السياسي ومضمونه.
ومن هذا المنطلق، عملت الوثيقة على اقتراح معالم مهمة لكسب رهان التحديث والتنمية السياسية تفضي إلى بناء دولة العدل والكرامة والحرية، من خلال بناء نظام حكم عادل ومنضبط للتعاقد الدستوري المنبثق عن الإرادة الشعبية؛ نظام يقوم على سلط حقيقية ومستقلة ومتوازنة ومتعاونة، وعلى مؤسسات مدنية فاعلة ومبادرة.
· معالم نظام حكم ديمقراطي
وسمت وثيقة الجماعة الدولة التي تنشدها بأنها:
§ دولة عصرية عادلة منضبطة للتعاقد الدستوري المنبثق عن الإرادة الشعبية؛
§ دولة مدنية بكل ما يعنيه ذلك من بعد عن طبيعة الدول التيوقراطية والعسكرية والبوليسية؛
§ دولة القانون والمؤسسات القائمة على الفصل والتوازن والتعاون بين السلطات، وعلى التداول السلمي للسلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة ومنتظمة وفعالة؛
§ دولة تسعى عبر مؤسساتها وبرامجها إلى مشاركة المواطنين في الحياة العامة، مع خضوع مسؤوليها للمحاسبة والمساءلة بغض النظر عن مكانتهم السياسية ومواقعهم الاجتماعية.
§ دولة المجتمع، أي الدولة التي تجعل أولى أولوياتها خدمة المجتمع وضمان أمنه واستقراره، والسعي الدؤوب للرقي به بعيدا عن أي تمييز بين أبنائه.
وهذه الدولة المنشودة، يفترض أن يكون نظامها السياسي أثناء اشتغاله لعدة مبادئ وآليات لعل أهمها حسب وثيقة الجماعة:
§ المساواة أمام القانون: تضمنه عدة آليات منها نص الدستور والمؤسسات والآليات القانونية والقضائية، التي تسمح بمواجهة كل شطط من شأنه المس بالحقوق والحريات.
§ ضمان كرامة المواطنين: لأن تلك الكرامة هي مناط وجود النظام السياسي وجوهر الحرية فيه، وينبغي أن تكون هي محور السياسات العمومية بمختلف أصنافها وأنواعها.
§ تعددية سياسية تفضي لتناوب حقيقي على السلطة، وهذا يتطلب القطع مع الثقافة السياسية السائدة التي تحاول تنميط العمل السياسي، وبالمقابل تعزيز ثقافة القبول بالآخر والاعتراف به، إيمانا بضرورة مشاركة الجميع في بناء نظام سياسي مجمع عليه شعبيا، وقوي في بنيانه، وأطول في عمره، وصلب في سيادته، وفاعل في محيطه الدولي لا مجرد تابع في منظومة الاستكبار الدولي.
§ تحييد آليات التنشئة وخاصة منها المساجد في الصراع السياسي والحزبي، وعدم تحويلها إلى أدوات “أيديولوجية” لتبرير التسلط، بل ينبغي ضرورة تأطيرها وتنظيمها لجعلها مجالا للمجتمع وقواه الدعوية والعلمية والمدنية، بما ينسجم مع قيم الإسلام السمحة ومعانيه الجامعة وأخالقه الراسخة التي تعود بالتعاون والإيجابية واليقظة على المواطنين والمؤسسات، وبما يقف حاجزا أمام التعصب والتشدد والغلو والفوضى.
· معالم الدستور الديمقراطي
اعتبرت الوثيقة السياسية للعدل والإحسان السلطة التأسيسية الأصلية أصل الإشكال الدستوري في النظام السياسي المغربي ومفتاح الحل. فاستمرار احتكار السلطة التأسيسية الأصلية والسمو على الدستور لا يمكن أن يحقق ممارسة دستورية وسياسية سليمة.
ولهذا رأت الوثيقة أن السلطة التأسيسية الأصلية سابقة على كل السلط وفوقها، لأن مصدرها في ذاتها وليس في سلطة أخرى تعلوها إلا سلطة السيادة الشعبية التي أفرزتها. وبالتالي فإن وضع الدستوري ينبغي أن يبتعد عن الأساليب غير الديمقراطية لوضع الدستور ومنها أسلوب المنحة. وبالمقابل رأت الوثيقة أن الأساليب الديمقراطية ومنها أسلوب الجمعية التأسيسية المنتخبة والاستفتاء هي صمام الأمان الشعبي لأي دستور أراد أن يكون ديمقراطيا.
وبشيء من التدقيق اقترحت وثيقة العدل والإحسان أن يسبق وضع الدستور صياغة ميثاق جامع عن طريق الحوار والتوافق، يعرب عن “الرؤية الاستراتيجية” التي سمتها الوثيقة “المبادئ فوق الدستورية”. ثم اقترحت أن يتم اعتماد ما يُعرف في الفقه الدستوري “الجمعية التأسيسية غير السيادية”، التي تعني سيادة شعبية مزدوجة من خلال انتخاب هيئة تأسيسية من قبل الشعب تُعِدُّ مسودة الدستور التي تعرض بعد ذلك على الاستفتاء الشعبي.
هذا من حيث شكل وضع الدستور، أما على مستوى مضمون الوثيقة فلا مناص من ترسيم فصل السلط من خلال آليات التأثير المتبادل خاص بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أو ما يسمى التعاون والتوزان الذي تحرص السلطة القضائية وخاصة القضاء الدستوري على ضمانه.
· آليات فعالة للتواصل السياسي
رغم اعتراف الدستور المغربي بالتعددية الحزبية فإنها لم تؤدي رغم كل الفترة التي مرت من تبلور تعددية سياسية حقيقية في ظل سيادة ثقافة سياسية “إجماعية” تربط الفعل السياسي بالفاعل المركزي في النظام السياسي، والتوجه المستمر نحو ضبط الحقل الحزبي وتمييعه، وجعل الأحزاب السياسية من موارد السلطة عوض أن تكون مالكة لها في إطار التناوب الحقيقي على السلطة. وهذا ما انعكس على واقع الأحزاب السياسة التي تحولت، في أغلبها، إلى آليات للترقي الاجتماعي للنخب، والاستفادة من الريع السياسي الذي تتيحه الممارسة السياسية في النسق السياسي الرسمي. والنتيجة أحزاب بدون سياسة، وسياسة بدون أحزاب.
ولذلك كان لا خيار، حسب وثيقة الجماعة، إلا اعتماد مبدأ الحرية في إنشاء الحزب السياسي باعتماد مبدأ التصريح، ومنح القضاء ضمانات الاستقلالية والحياد في قضايا تأسيس الأحزاب وحلها وأثناء ممارسة أنشطتها بكل حرية في إطار احترام الدستور والقانون لا فوقهما. إضافة إلى التنصيص الصريح على أن وظيفة الأحزاب السياسية هي ممارسة السلطة والحكم عبر انتخابات حرة ونزيهة، لا مجرد مشاركة ومساعدة على ممارسة السلطة إلى جانب الفاعلين المركزيين والترابيين غير المنتخبين.
وبنفس المنطق دعت وثيقة الجماعة إلى تعزيز أدوار وسائل التواصل الأخرى مثل النقابات والجمعيات.
3. على سبيل الختم
إن من أهم ما ميز وثيقة العدل والإحسان هي قدرتها على النفاذ إلى مسببات فشل التنمية السياسية في النظام السياسي المغربي في جذورها وليس فقط الوقوف عند الأعراض والأسباب الظاهرة. وهذا ما مكنها من طرح الأسئلة الجوهرية التي لا تطرح عادة عند مناقشة أسباب فشل التحديث السياسي. فالتنمية السياسية إذن في المغرب هي إشكالية حكم وليس مجرد إشكاليات حكامة تدبير.
وهي بهذا الطرح تعيد النظام السياسي المغربي إلى الأسئلة الأولى التي طرحت بعد سنة 1956 التي أدى القفز عليها أو التعامل معها بمنطق سلطوي لا بمنطق توافقي إلى إعادة إنتاج الأزمة في النظام السياسي المغربي.
كما أن الوثيقة ربطت أيضا التنمية السياسية بالتنميتين الاقتصادية والاجتماعية باعتبارهما جدلية حاسمة. فلا تنمية سياسية في ظل فساد وركود اقتصادي وتخلف وإقصائي اجتماعي. ولا تنمية اقتصادية وعدالة اجتماعية ومجالية في ظل استبداد سياسي.