أصدر المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي رأيا حول مشروع مرسوم بشأن التوجيه المدرسي والمهني والإرشاد الجامعي، ودعا إلى إرجاء إصداره لأن وزارة التربية الوطنية، وهي التي أعدته، لم تُعِد بعدُ شروطه ومستلزماته القبلية. ويبدو أن هذا المرسوم جزء من ترسانة قانونية في إطار تنزيل مقتضيات القانون الإطار بشأن التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، خاصة ما يتعلق بالمشروع رقم 13 الخاص بالتوجيه المدرسي والمهني.
وقد سبق للمجلس أن أنجز تقارير عديدة لامست موضوع التوجيه التربوي؛ مثل تقاريره حول التعليم العالي، والتكوين المهني، ومدرسة العدالة الاجتماعية، أكد من خلالها كلها على محورية التوجيه في الإصلاح التربوي، وأوصى بإعادة النظر في مقارباته وآلياته. كما يرى المجلس أن الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار اعتبرا التوجيه التربوي “مكونا من مكونات النموذج البيداغوجي، وعاملا أساسيا في تفعيل الإصلاح ضمن تصور نسقي ومتكامل، باعتبار دوره المرتبط بمبدأ الحق في التعليم الميسر وذي الجودة، وبسبل الحد من الفوارق المدرسية، وتحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص بين المتعلمين”، مما يستلزم “تغييرا جذريا لنظام التوجيه التربوي، بمراجعته الشاملة، ولزوم بناء مكوناته على أسس هيكلة بيداغوجية جديدة لمنظومة التربية والتكوين” بناء على الانتظام في نسق يستحضر مبادئ الإصلاح.
إلا أن ما قامت به الوزارة لحد الآن في إطار مشروعها لإرساء “نظام ناجع للتوجيه التربوي” هو مجرد “تحسين لمكونات وآليات النظام القديم”، حسب المجلس، إذ إنها لم تستطع أن تلامس عمق الإصلاح المنتظر الذي جاءت به الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار، مما يطرح معه السؤال؛ هل سبب ذلك هو عدم وعي الوزارة بعمق الإصلاح المطلوب؟ أم أننا من جديد إزاء اختلال في علاقة الإداري بالسياسي، والتقني بالخبير؟ فإذا اعتبرنا أن الرؤية الاستراتيجية منتوج خبرة، وأن القانون الإطار تدبير سياسي، وأن مشروع الوزارة أجرأة إدارية/قطاعية، فإن النجاح لن يتحقق إلا بالتكامل والانسجام بين هذه المستويات الثلاثة. وهو مطلب مفصلي يفترض وعيا وتمكنا وفهما دقيقا للتوجهات، كما يتطلب إبداعا وتفكيرا غير خاضع لشروط الأزمة، أو حسابات الإدارة في تعاطيها مع متطلبات الإصلاح ورهاناته.
ولعل هذا يعكس الخلل الذي طالما عبر عنه الكثير من المهتمين والمتابعين للخطط الإصلاحية التي تتضمن بعض الإشارات والمقترحات الهامة على مستوى التخطيط والتفكير، فيما تتعرض لتحريف أو تقزيم أو تبسيط أو اختزال في لحظة الانتقال من التصورات العامة إلى الأجرأة العملية التقنية. فهي لحظة تتطلب حنكة ودربة طالما ضاعت بسبب ضعفها آمال المغاربة مع كل إصلاح تربوي، منذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين فالمخطط الاستعجالي، ويُخشى أن يتكرر الأمر مع الرؤية الاستراتيجية. نقول هذا بغض النظر عن كل الملاحظات والانتقادات التي يمكن أن نسجلها على مخططات الإصلاح التربوية منهجية وشكلا ومضمونا. ويركز المجلس في تقاريره على مساهمة التوجيه التربوي في ضمان الحق في التعليم والتكوين للجميع، والمساواة وتكافؤ الفرص في تأهيل الرأسمال البشري.
والحقيقة أن مشروع الوزارة لم يعط هذا البعد ما يستحقه من اهتمام، ذلك أن مفهوم العدالة والمساواة يحتوي ويتجاوز منطق توفير الفرصة الذي يركز عليه المشروع إلى منطق تكافئها وضمان حق الوصول إليها. إذ إن الوزارة لم تقدم بعد جوابا على التفاوتات المدرسية والاجتماعية والأصلية في سياق عمليات التوجيه. فمن هذه التفاوتات، مثلا، ما يرغم تلاميذ العالم القروي وشبه الحضري على القبول بأي شعبة بسبب شح العرض في التخصصات الموجودة بالمؤسسات القريبة من سكنهم، فيما يكون الأمر أسهل وأيسر لفئة أخرى محظوظة بقربها من الثانويات التي تحتضن تلك الشعب. ويتعمق الأمر أكثر عند المقارنة بين نسبة الحظوظ التي يمتلكها تلاميذ التعليم الخصوصي في الولوج إلى الشعب الخاصة، في حين تضيق تلك الحظوظ أمام تلاميذ التعليم العمومي. وهو ما من شأنه أن يشكل عائقا أمام تحقيق رهان الإنصاف المنشود.
من جهة أخرى أشار المجلس إلى مبدأ آخر يتعلق بضرورة مراعاة الانسجام والتنسيق بين مسالك الدراسة والتكوين، وهو ما تراهن عليه الوزارة بشكل كبير من خلال إرساء مسالك البكالوريا المهنية بالثانوي التأهيلي، والمسارات المهنية بالإعدادي، ونظام الجسور بين التكوين المهني والتعليم الثانوي. إلا أن هذا الإرساء يعرف تعثرات جَمَّة خاصة أمام العزوف المتزايد للتلاميذ عن ولوج هذه التخصصات بسبب ارتجالها وضبابية أفقها، فضلا عن إشكالات تدبيرية لم تتمكن الوزارة بعد من تجاوزها رغم مرور ستة سنوات على انطلاق هذه التجربة. وسيزيد الأمر استفحالا بعد تشتيت قطاعات التربية والتعليم والتكوين في الحكومة الحالية، فما لم تستطع وزارة واحدة تحقيقه وهي تضم تحت جناحيها قطاع التربية وقطاع التكوين المهني وقطاع التعليم العالي، لن تستطيع الحكومة الحالية تحقيقه في تركيبة حكومية توزع هذه القطاعات الثلاثة على ثلاث وزارات. وقد دعا المجلس لزوما إلى ضرورة إدماج محددات أساسية وخص بالذكر “الجودة والإنصاف والعدالة الاجتماعية والارتقاء الفردي والمجتمعي”.
ولعل ذكره لهذه المحددات يعكس غيابها في النصوص والتوجهات التي اعتمدتها الوزارة في سياق إصلاحها، وعلى رأس هذه الخيارات “المشروع الشخصي للتلميذ” الذي يعرف انتقادات حين يتعلق الأمر بتحقيق الإنصاف. ذلك أن هذه المقاربة التي تفتقر إلى المواءمة مع الواقع المغربي، تواجه تحدي التمثلات المشتركة حول “مبدأ المشروع” في السياق المجتمعي عموما والتربوي خصوصا، ولا تتفاعل مع رهان العدالة في بعدها السيني (نسبة إلى أمارتيا سن) لأنها تدعو بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تقبل الإكراهات الموضوعية وبناء مشروع على أساسها، في حين تكون أغلب هذه الإكراهات ناتجة عن تفاوتات مدرسية أو اجتماعية أصلية يفترض أن تعمل الوزارة والدولة على تحييدها، ليكون مختلف التلاميذ في لحظة الاختيار والانتقاء على قدم المساواة من حيث تحصيل التعلمات والاستفادة من العرض التربوي للشعب والتخصصات. وهو الأمر الذي يعتّم عليه التفكير بمنطق المشروع. مما يجعنا نتساءل هل مقاربة المشروع الشخصي للتلميذ بشكلها المطلق داعمة أم ممانعة لرهان الإنصاف الذي تروم الرؤية الاستراتيجية تحقيقه؟ ويشير المجلس إلى أن التوجيه التربوي ينبغي أن يقوم بوظائف متنوعة ومتكاملة، ويساهم في المواكبة المستمرة للمتعلمين باعتبار كفاياتهم ومهاراتهم الفردية، والدعم الفردي على أساس الاستهداف، للمساهمة في محاربة الفوارق المدرسية والتمثلات السلبية تجاه بعض المسارات الدراسية والتكوينية والمهنية، ويقدم الاستشارة والمساعدة على الاندماج المهني. كما يوفر نظام التوجيه فضاءات للتواصل والانفتاح لإشراك فاعلي المنظومة والأسرة، والتنسيق على الصعيد الترابي من أجل انخراط الفاعلين والشركاء في نظام التوجيه ودعم أوراشه والمساهمة في تحقيق أهدافه.
إن هذه الإشارة وإن كانت تحمل زخما كبيرا من حيث حمولتها الوظيفية التي يحددها المجلس للتوجيه التربوي، إلا أن المجلس لم يُقَدّر بأن أدوارا بهذا الحجم لا يمكن تحميلها لمنظومة تعليمية تتلمس ترميم شروخها وجروحها التي راكمتها خلال سنوات طوال من الإصلاح وإصلاح الإصلاح.
ومهما بدا لنا أن التوجيه التربوي هو حلقة مهمة في السيرورة التربوية من داخل المدرسة، فإن ذلك لا يمكن أن يغيب حقيقة أن التوجيه ولد وسط عالم المهن، وأن ارتباطاته مع قطاعات ومؤسسات عديدة داخل المجتمع تجعله أكبر أنساق المنظومة التعليمية وأكثرها انفتاحا وارتباطا بالمكونات المجتمعية، خاصة عندما تحدد له رهانات الانفتاح على شركاء من مؤسسات اجتماعية واقتصادية أخرى. لذلك وعلى مدى العشرين سنة الماضية لم تستطع الوزارة بلورة تصور واضح عن الأدوار الضرورية والممكنة التي يمكن للنسيج الاجتماعي والاقتصادي أن يؤديها في هذه السيرورة التوجيهية التي تمتد مدى الحياة، بما في ذلك مشروع الوزارة الحالي، إذ ظلت الإشارة إلى أدوار الأسرة والمقاولات والجماعات الترابية مجرد عبارات تؤثث المذكرات والقوانين والمقررات في احتشام دون أن تتبلور في خطط عمل.
والحقيقة أن الوزارة ليست فقط متهربة من وضع تصور تفصيلي حول هذا الموضوع، وإنما هي أيضا عاجزة، بحكم إمكانياتها واختصاصاتها، عن تنزيله ونقله إلى الواقع. وهذا يطرح سؤالا: هل من الطبيعي أن نزج بالتوجيه التربوي بشكل كلي داخل أسوار المدرسة؟ أم أنه آن الأوان لنطلق سراحه بأفق أرحب تكون فيه المدرسة جزءا من اهتمامه وليس سورا يكبح إمكانياته؟ إن بين ما يطرحه المجلس وما تقوم به الوزارة مساحة واسعة من الجرأة مفتقدة من الطرفين، فالأول يقترح رهانات كبيرة وأهدافا عظيمة خاصة عندما يصرح بأن التوجيه التربوي ”ركن مفصلي من أركان النموذج البيداغوجي”، لكنها رهانات دون دعامات موازية لا سياسية ولا مادية ولا اعتبارية. وقد يكون التوجيه التربوي ركنا من أركان النموذج البيداغوجي، كما يقول المجلس، لكنه أكبر منه وأفسح.
أما الوزارة فإنها مالت إلى إعادة إنتاج الوضع القائم مع بعض التحسينات، مما جعل المجلس يرى أن المرسوم المحال عليه لم يستوف توجهات ومقتضيات الإصلاح كما ينص عليه القانون الإطار، والقاضية بمراجعة شاملة لنظام التوجيه، ومداخل هذه المراجعة في تقديري، لن تتحقق إلا من خلال أربعة محاور:
الأول؛ المدخل البيداغوجي الذي يحرر التوجيه التربوي من ثقل التقزيم الزمني والموضوعي، ويدمجه في سيرورة تربوية بمفهومها العام، سواء على مستوى المناهج أو التجربة المدرسية برمتها. وعندما نتحدث هنا عن المناهج فلا نقصد إحداث وحدات إضافية لتحقيق هذا الهدف كما ذهب إليه مشروع الوزارة، وإنما إعادة بناء المناهج مجملة على أساس مستلزمات التوجيه التربوي، وأقول التربوي وليس المهني حتى لا نسقط في فخ المهننة.
الثاني؛ مدخل الفاعلين الذي يحرر منظومة التوجيه التربوي من تركيبة متقادمة تمتح من فكر تقليدي في التدبير لم يستطع مشروع الوزارة التخلص منها. إذ إن تعدد الفاعلين داخل المؤسسة التعليمية ينبغي أن يعكس تعددا حقيقيا للاختصاصات والمهام في سياق تكاملي منسجم. وإن تعدد الفاعلين خارج المؤسسة ينبغي أن يعكس تعددا لمساحات التجريب والاندماج التي تستهدف مستويات متعددة من شخصية المتعلم.
الثالث؛ مدخل الموقع الذي يحرر التوجيه التربوي من حصار المنظومة التعليمية. فأي مشروع لا يستطيع أن يجد للتوجيه التربوي موقعا قويا وسط المجتمع، وبين مختلف القطاعات والمؤسسات، موقعا ممأسسا ومرسما، فإنه مشروع أقرب إلى الجمود منه إلى التطوير، لأنه يعيد إنتاج أزمة العلاقة بين المدرسة والمجتمع سواء في أبعادها الاجتماعية، خاصة ما يتعلق بتدبير مسألة العدالة والإنصاف، أو في أبعادها الاقتصادية خاصة ما يتعلق بتدبير سوق الشغل وطموح التوجيه مدى الحياة. إذ لا يمكن لمنظومة قابعة بين جدران المنظومة التعليمية أن تواكب الفرد طوال حياته وفي مختلف احتياجاته.
الرابع؛ مدخل الإشراك الذي يحرر التوجيه التربوي من ضيق الإملاءات الجاهزة، والتجارب المعقمة، إلى استشارات موسعة وبناء قاعدي هادئ يفرز تصورات من تربة الواقع وإكراهاته، حتى تكون متناسبة معه وفي حجمها الطبيعي القابل للتنزيل والأجرأة، وتستفيد من الذكاءات المتعددة لخبراء الميدان بما يعفينا من الترجمة الجامدة للتجارب الأجنبية.