“الجار قبل الدار”، “جارك القريب ولا أخوك بعيد”، “دير ما دار جارك أو حول باب دارك”… أمثال وحِكمٌ وإن كانت لا تزال تتردد في التعبير الشعبي المغربي لفظا إلا أن مدلولها كاد أن يكون مجرد طيفٍ حلّق بعيدا عن أرض علاقات الجوار، التي استوطنتها قِيم المُدن الرأسمالية التي فرضت على سكانها إيقاع عيش سريع لم يعد يترك للفرد فرصة تفَقُّد أرحامه ولا جيرانه. فكيف كان حال الجوار بين أمس كانت القيمة أسبق من المصلحة ويومنا الذي أضحت فيه المصلحة هي معيار القرب والجوار المؤقت بتوقيت المصلحة؟
1. هدْيُ النّبيِّ وأصالةُ البادية تُورِّثان الجار البعيد
كان معظم المغاربة قبل الصدمة الاستعمارية في بداية القرن 20م يعيشون في البوادي بقيمها المتأصّلة أصالة تعلُّق المغاربة بدينهم الإسلامي، بل حتى في المدن كانت قيمُ البادية هي الناظمة لإيقاع الحياة. ومن تلك القيم المتأصلة في سلوك المغاربة قِيَمُ الجوار والعلاقات بين الجيران. كان الجار والجوار مُقدسات اجتماعية تفانى المغاربة في إبداع صور التضامن والتكافل والتراحم والتعاضد بين الجيران، والإيثار وتقاسم القليل والكثير، ومشاركة الحلو والمرّ.
بل إن مورفولوجيا بعض الأحياء السكنية كانت تجسيدا تلك القيم؛ فقد كان بيت الجار الميسور ورياضُه يتوسط بيوت الجيران، ومنهم أقاربه، الأقل منه مكانة اجتماعية وغنى. فكان بيته مركز الحي النابض، ومطبخه المُطعم لكل جائع، وبهوه مقر كل نقاش جدّي يهم الحي، وفي هذا تمثل لقوله الله عزّ وجلّ في سورة النساء: وَاعْبُدُوا اللَّـهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ.
كان من أخلاق المغاربة، قبل أن يَجْلُب عليهم الاستعمار بقيمه ونمط عيشه، أن يقاسم الجارُ جارَه طعامَه الشهي غير المألوف أعيادا ومناسباتٍ، بل حتى ما يُطبخ خصيصا يوم السوق الأسبوعي من شواء ومرق وغيره يكون فيه للجار نصيبه الأكيد، وفي ذلك تأسٍّ بوصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍ عندما قال له مُعلِّماً: “يا أبا ذَرٍّ، إذا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فأكْثِرْ ماءَها، وتَعاهَدْ جِيرانَكَ”. بل كان المصطفى عليه الصلاة والسلام في يومٍ من الأيّام أمر أهل بيته بذبح شاة وتوزيعها بين الجيران، وكان أحبّ شيءٍ إليه الذراع، فلمّا قدِم سأل عائشة -رضي الله عنها “ما بقيَ منْها؟ قالت: ما بقيَ منْها إلَّا كتفُها، قالَ: بقيَ كلُّها غيرَ كتفِها”، و“ليس المؤمنُ بالذي يشبعُ وجارُه جائِعٌ إلى جنبَيْهِ” كما أخبر بذلك الصادق المصدوق.
وفي الحي تكون نساؤه في خدمة الحامل منهن، وللوضع طقوسه الخاصة في الاهتمام ورعاية الوالدة وما ولدت، ولجميع الأطفال قاطعة واحدة للحبل السري بعد ودلاتهم، اِتَّفق التداول الشعبي على تسميتها “الجدة”، فتكون جدّة جميع أطفال الحي تحِنّ عليهم كما تحِن على أحفادها الطينيين. وتزداد أخوة هؤلاء الأطفال عندما يتشاركون نفس اللبن من الجارات المرضعات، فيُسمِّي الطفلُ، ولو كبر وصار رجلا، مُرضعتَه “أمي”، وينادي ابنها الطيني “أخي”. وهكذا يصير الحي عائلة متكاملة، وهذا ليس بغريب عن قيم المغاربة الذين التقطوا إشارة المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام الذي أخبر أمته تربية وتلميحا لمكانة الجار في قوله: “ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالجارِ، حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ”.
وجلسات نساء الحي اليومية التناوبية من بيت لبيت بعد صلاة العصر مظهر آخر للتزاور اليومي ولتقاسم كأس شاي العصر وما تحمله كل واحدة منهن مما تيسر من حلويات وطعام ومأكولات تُفرح أطفال الحي تُوزَّع عليهم قبل أن تصل لبيت الجارة المقصودة. أما الرجال فيكون انتظار الصلوات وبعدها مناسبة للتداول فيما يهمّ الحيّ، ومناقشة ما يستجد من أمور أو تنظيم فعاليات، أو الإعداد التكافلي لمَشْغَلة ما في الحي أو التكافل مع أحد الجيران فيما يشغله أو ألمّ به من كُرب الدنيا. أما شباب الحي فالتسامر الليلي خاصة في ليالي الصيف المُقمِرة منصة شبابية لقضاياهم واهتماماتهم. دون أن يعني هذا القطيعة بين الأجيال بل تواصل جيلي يحضر فيه الطفل منتديات الكبار يسمع ويشارك وأحيانا يُسمع رأيه ويُعزز.
أما الأفراح والأتراح في دواوير البوادي وأحياء المدن قبل أن تستوطنها قيم المادية والفردانية فهي مسؤولية الجميع؛ الكل يساهم؛ الرجال بالدعم المالي والأعمال الشاقة على الجار الخفيفة على الجيران، ووضع بيوتهم وجدرانهم في خدمة الجار إذ “لا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ في جِدَارِهِ” وصية منه صلى الله عليه وسلم. أما النساء فيكنّ رهن إشارة جاراتهن بأوانيهن وخدمتهن المباشرة طهياً وإعداداً للأطعمة مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اصنَعوا لآلِ جعفَرٍ طعامًا، فقد أتاهم أمرٌ يشغلُهُم أو أتاهم ما يَشغلُهُم”. والشباب والأطفال فهم في الخدمة والمناولة وسخرة للحاجيات المطلوبة من الأسواق والحوانيت البعيدة والقريبة.
هي إذن فيضٌ من غيض المكارم التي امتزجت فيها قِيمُ الإسلام السمحة التي عرَّفت الجار على لسان مُعلِّم الإسلام “ألا إن أربعين دارًا جار”، وربطت بين الإيمان بالله واليوم والآخر والإحسان للجار في قوله صلى الله عليه وسلم: “مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إلى جارِهِ”، ربطتهما (الإيمان بالله واليوم الآخر) بشهامة المغاربة وقيم البادية الأصيلة في إكرام الجار البعيد قبل القريب. وبقدر هذه المبالغة في الإحسان للجار كان التشديد والوعيد لمن يؤذي جيرانه حسّا ومعنى، ومن بلاغة النبي المؤيد بالوحي أن يكون نفس الربط بين إيذاء الجار وانعدام الإيمان بالله واليوم الآخر إذ قال عليه السلام في حديث آخر: “مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِي جارَهُ”.
فماذا حلّ بهذه القيم بعد أن استوطنت ثقافة المُستعمر الأنانية الأوطانَ، وزاحمت قيمُه قيم الدار والجوار؟
2. تيه الرأسمالية وضغط المدينة تُبْعِدان الجار القريب
استوطن الاستعمار الغربي أرض المغرب قرابة نصف قرن، وبقدر استهدافه لمقدرات وخيرات الوطن الطبيعية بقدر ما سعى إلى تنميط الثقافة المحلية وتغيير قيم الإنسان المغربي وخصوصياته وتضامنه وتكافله أو ما سماه دوركايم آليات “التضامن الآلي”، لتحل محلها آليات “التضامن العضوي” التي تأسّست على تقسيم طبقي وظيفي للمجتمع والأحياء السكنية، فظهرت الأحياء الراقية بفيلاتها الشاسعة حيث لا أحد يعرف أحدا من أبناء مالكي وسائل الإنتاج الاقتصادي، بينما يتكدس العُمّال في هوامش المدن في الأحياء الصفيحية أو العشوائية يغدون سراعا لمطاحن الأعمار في المصانع والضيعات الاستغلالية، ويروحون ثقالا عياءً لا وقت لتفَقُّد الأبناء والأسرة الصغيرة بَلْه الجيران والأقارب. وبينهما طبقة وسطى محشورة في صناديق السكن العمودي، حيث المعاملات والمجاملات، إن صمدت أمام إشكالات استغلال المشترك في تلك البنايات، لا تبرح لحظة التواجد في أدراج ومصاعد العمارات.
تراجعت قيم الإسلام في الجوار وتضاءلت الأصالة البدوية أمام طغيان قيم الاستغلال والمصلحة والربح والفردانية، وعقلانية العلاقات التي فرضتها القيم الليبرالية التي دَمغت المجتمع المغربي خاصة في مدنه الكبرى، بل امتدّ ذلك إلى البوادي، دون أن يعني ذلك التخلي نهائيا عن القيم الأصيلة التي تقاوم من أجل البقاء عبر وسائل التنشئة الدينية والتربوية رغم حجم التيار الجارف الذي زحف على قيم الجار والجوار.
لقد تراجعت التربية على الانتماء إلى الحي أو “الدرب” ولم يعد الجار قريبا بل أضحى أبعد الناس عن الجيران، وأصبحت العلاقات محدودة في التحية الباردة التي تعبر عن أرقى درجات الودّ بين الجيران والتي لا يمكن تجاوزها إلا لمناقشة مشكل مستجد أو خصام أو إيصال رسالة مقتضبة عن إزعاج ما. وأصبح الآباء يوصون أطفالهم بعدم الاختلاط بأبناء الجيران، وبالمقابل يبحث الآباء لهم عن بدائل في نوادي وفضاءات بعيدة. ولم تعد الجارة تطلب أواني وخضروات وتوابل من جاراتها. وقد يُحيي الجار مناسبة في شقته الضيقة دون أن يدعو إليها الجار الملاصق لجداره، وقد لا يلبي الجار المدعو الدعوة إن تمت، ويتقابلان صباحا ويتبادلان نفس التحية البارة كأن شيئا لم يكن.
لقد تراجعت الثقة بين الجيران ولم يعد الجار هو الأمين على البيت في حالة السفر والغياب، بل هو المتهم الأول إن فُقِد شيء في البيت، وأبناء الجار هم السبب المحتمل لأي كسر في زجاج النوافذ والسيارة. بل خرّبت تلك الثقةَ حالاتٌ شاذةٌ لزنا الجيران سعّرها الإعلام المأجور لتقضي على ما بقي من الوقار والرجولة التي جعلت للجيران حُرمات مُصانة. ولم تعد الجدة جدة لأطفال الحي، وعوّض لبنُ الصيدليات لبن الأمهات الجارات، وأضحت سيارة الإسعاف هي الأقرب من سيارات الجيران في حالة المرض أو الوضع للحوامل في الساعات المتأخرة من الليالي الكالحة.
وأصبحت قضايا الخلافات بين الجيران تصل للمحاكم ولم يعد في الحي والدرب حكماء مسموعي الكلمة ليقوموا بالصلح، ولم يعد الشيطان ملعونا عند أتفه أسباب الخصام بين الجيران، بل هو -الشيطان- والنفس والمظاهر الخداعة هي مُسعِّراتٌ للخصومات. فتحدث القطائع بين الجيران للأبد، بل مِنهم من يغادر مسكنه مرارا وتكرارا، ويبيع عقارات أنفق عليها عُمره وأمواله بسبب الجار السيء.
بل حتى مسجدُ الحَيّ لم يَسْلم من قيم الفردانية، فالجار يصلي وينصرف مؤديا واجبه الفردي، وكأن التّهمُّم بأمور المسلمين وخاصة جيرانه لم يعد من صميم دينه، رغم عشرات المواعظ التي يسمعها فوق منابر المساجد.
فهل تتصالح قيم المدينة المغربية اليوم مع قيم البادية أمس لإعادة الاعتبار للجار والجوار؟
3. آليات التحديث وأصالة القيم
إن الواقع الحالي للمجتمع المغربي لا يمكن القفز على إكراهاته وتحدياته واقتلاع القيم الجديدة التي أرخت بظلالها على العلاقات الاجتماعية، وفي صلبها علاقات الجوار. وبالمقابل لا يمكن التماهي مع مهاوي استهداف القيم الأصيلة في المجتمع، بل ينبغي العمل على تحقيق مصالحة بين التحديث المادي للحياة وشروطها وبين ثبات الأصول ورسوخ القيم الأصيلة التي تُشكل هوية المجتمع المغربي ونَظَمت وتَنْظم وينبغي أن تَنْظم علاقاته وفي مقدمتها علاقات الجوار.
إنها مهمة الدولة إن أرادت أن تكون دولة المجتمع وتحرص على أن يكون مجتمعا سليم القيم متصالحا مع هويته الدينية والحضارية. إنها مهمة المساجد والدعوة والدعاة إن أردوا بناء مجتمع مسلم حديث الأشكال أصيل الهوية مؤديا رسالته للإنسانية؛ رسالة النموذج الإسلامي في حسن العلاقات وتدبير الجوار. على الدعوة أن تنزل من كراسي الوعظ إلى ميدان المخالطة لمعالجة ظاهرة انحسار العلاقة مع الجيران، والقيام بما يشبه قوافل توعوية في التجمعات السكنية والأحياء لإعادة الدفئ للعلاقات.
إنها مهمة المدرسة إن أرادت أن تؤدي وظيفة التربية. إنها مهمة الإعلام إن أراد أن يكون توعويا خادما لقيم المجتمع السليمة. إنها مهمة الأحزاب إن أرادت تنشئة أجيال سليمة خادمة لوطنها ومجتمعها.
إنها مهمة النقابات وجمعيات المجتمع المدني لإعادة إحياء قيم التكافل والتزاور والتعاضد بين فئات المجتمع، ومن فئاته الجيران. إنها مهمة “السانديك” ليُبدّد ثلوج البرودة بين الجيران، ويربط العلاقات بالتي هي أحسن، لا أن يكون الدور معكوسا غيبة ونميمة مذمومتين.
إنها مهمة الجار إن أراد أن يلج بابا مضمونا إلى الجنة هو باب جاره إكراما وإحسانا وخدمة. فليبادر ويفتح الأبواب ويتواصل ويجترح مختلف الأسباب ويدفع التخوفات المكبلة، ويقترح على جيرانه وسكان الحي مبادرات تعيد اللحمة وتجدد العلاقة وتبني الثقة. ودون ذلك تحديات، ودون ذلك صدود، ودون ذلك عقبات تُقتحم، وصبر ومصابرة، ورفق وحِلم.
إنها مهمة الآباء والأجداد الذين مازالوا يتنسّمون عبير الأيام الخوالي، ليقوموا بنقل تلك القيم للأجيال الجديدة، فيبادر شيخ وكهل الحي وليجمع الشباب الذين صار كثير منهم أرباب أسر ويحثهم على التكاثف ويزرع فيهم قيم التآلف والتعاون والاحترام.
إنها مهمة الجيل القادم ليرجع إلى أصوله ودينه وهويته، ويكتشف مشية حَمَامه الأصيل، لا مشية الغراب الغريب.