نصحنا الأجداد قديما أن نختار الجار قبل الدار، وهي نصيحة جيدة وهامة، غير أن حقيقتها الساطعة لن تكشفها لك إلا الأيام و تقلباتها..
من أبرز ملامح طفولتي أن الجيران كانوا جزءا من حياتي.. أتذكر جارتي الحاجة؛ عجوز في السبعين، نحيلة كغصن يابس، في كل تجعيدة حكاية، وفى كل حكاية وجع. عيناها باهتتان تنظران دائما إلى بعيد، ربما إلى عالم أفضل.
كانت رحمها الله طيبة وكريمة.. كنت صغيرا أحب أن “أتسخر” لها لأنها تعطيك بعد كل سخرة لدى البقال أو عند الجيران هدية رفيعة حلوى فاخرة أو قطعة جبن غالية أو شيكولاته قادمة من الخارج.. قالت لي ذات يوم وأنا ذاهب إلى الثانوية (كن رجلا ولا تصاحب التافهين) لم تكن تعلم حينها أنها تضع حجرا أساسيا في وعي طفل مقبل على الحياة..
حين زرتها في يومها الأخير أومأت برأسها وشبه ابتسامة على وجهها.. جلست معها للحظات كانت كافية ليعاودني مذاق الحلوى والجبن والشيكولاته..
كانت رحمها الله نعم الجارة فهي أهم من حركت الأحداث في حياة العديد من أبناء الحي.
حينما تلتقي بطفل تسأله عن المدرسة وهل حفظ الفاتحة فيتوقف الصغير يعرض السورة كاملة ليفوز بقطعة جبن.
تلتقي بتلميذ في الثانوية فتوقظ في نفسه الطموح عندما تسأله عن مهنته مستقبلا، وهي تحذره أن لا يخذلها أو يخذل والديه الذين تعبا من أجله.
وتجد عاطلا عن العمل فتتابع معه بحثه عن وظيفة وحتى لو استقر فيها تسأله عن مرتبه وإذا لمحت فيه نبوغا تحثه على الدراسات العليا أو تسأله عن رأيه في السفر خارج هذه المدينة الصغيرة أو هذا الوطن الجاحد..
وحتى العزاب من أبناء الحي الذين استقروا في عمل بمرتب معقول تسألهم عن متى سنفرح بكم وتضيف بعض الدراما وهي تتنهد عن ضرورة إدخال الفرحة على الوالدين قبل فوات الأوان لأن الأعمار بيد الله..
لعبت الحاجة رحمها الله دورا مهما في حياة العديد من أبناء الحي، ويوجد مثلها في العديد من مدن المغرب.. الحاجة وأمثالها هم ملح الأرض وهم المعنيون بالمثل المغربي الجار قبل الدار وهم وصية جبريل لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظن أنه سيورثه، وهم من يحفظون للمجتمع توازنه ويقدمون له خارطة طريق، يتناقلونها جيلا بعد جيل بهدوء وثقة ودون خطة منظمة..
إلى جانب الحاجة كان هناك الشاف عبد السلام، سبعيني متقاعد، خاض حرب الصحراء وعاد بتقاعد هزيل ويد مبتورة، تزوج أبناؤه الأربعة ورحلوا عنه فبقي وحيدا مع زوجته.
كان التليفون الوحيد في الحي موجودا في منزله، وأذكر جيدا حرصه على أن يكون سلك التليفون طويلا بما يكفى ليدخل الجيران إلى غرفة منزوية عندما يهاتفهم أحد، كان اللعب أمام بيوت الجيران مرتبطا بتقدير الشاف عبد السلام فهو الخبير بظروف الآخرين. وهكذا يصبح اللعب ممنوعا قبل العصر أو عند مرض أحد الجيران وحتى عند اقتراب امتحانات البكالوريا لأحد أبناء الجيران حتى يتمكن من المراجعة دون ضجيج..
كان الشاف عبد السلام يمتلك أيضا، جهاز تلفزيون بالألوان، أحضره له أحد أبنائه من جزر الكناري، فأصبحت مشاهدة التليفزيون جماعية في الكثير من الحالات خصوصا مباريات كرة القدم، أما زوجته فتفضل متابعة المسلسلات المصرية مع جاراتها ويحرصن على حضور لالة زينب القادمة من (الداخل) لأنها تفهم العربية جيدا وسط حي نصفه أمازيغ، ويصبح هذا التلفاز ممنوعا إذا كانت هناك حالة وفاة في الحي أو حالة حزن أحدهم.
لا أعتقد أن الشاف عبد السلام يحفظ من الأحاديث النبوية كثيرا لكنني سمعته يوما يحكي قصة أناس ذهبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له إن فلانة تصلي وتزكي وتصوم وتؤذي جيرانها؛ فقال هي في النار. ثم التفت الشاف عبد السلام إلى مستمعيه مؤكدا (لا يصح أن يؤذي أحدنا جاره لو برائحة الطعام).
تعودت أن أشاهد أطباق الأكل تنتقل في حينا طوال الأسبوع محملة بمنتجات أمهات الجيران، هذه الأطباق كانت مفتاحا للسعادة بالنسبة لنا نحن الأطفال ومفتاحا للتجربة بالنسبة للمتزوجات حديثا ومفتاحا جماعيا لأبواب البيوت المفتوحة على بعضها البعض. أما الآباء في حينا، فقد كانت لهم السلطة نفسها على جميع أطفال الحي فقد يؤنبك أو يعاقبك أحدهم وتخفيها عن أبيك لأنه سيضاعفها لك والممتع أنه قد يشتري لك في اليوم الموالي ملابسا كأحد أبنائه.
يعتبر الواحد نفسه محظوظا لأنه عاش الأيام التي كان جهاز فيديو أحد الجيران ملكا للحي كله، والزحام في سيارة جار آخر وهو يحملنا إلى المدرسة أجمل من المدرسة، وكسكس صدقة (المعروف) أشهى وألذ أكلة حين تتنافس الأمهات على إعداده وسط الشارع طلبا لنزول المطر أو فرحا بعودة الحجاج أو طلبا لاستجابة دعاء خفي لأحد الجيران..
لا أريد في هذا المقال أن أوقظ حنينا للماضي، أحاول فقط أن أعرف النقطة التي انهار عندها معظم هذه التفاصيل في بيوتنا الجديدة بعد أن صرنا كبارا..
جاء في الأثر أن محمد بن الجهم عرض دارَه للبيع، فلما حضر الراغبون في شراء داره، قال لهم: قد اتفقنا على ثمن الدار، فبكم تشترون جوارَ سعيدِ بن العاص؟ فقيل له وهل الجوار يباع؟
قال وكيف لا يباع جوار من إذا قعدتَ سأل عنك، وإن رآك رحب بك، وإن غبتَ حفظك، وإن شهدتَ قربك، وإن سألتَه قضى حاجتك، وإن لم تسأله ابتدأك، وإن نابتك نائبة فرج عنك؟ فبلغ ذلك سعيد بن العاص فوجه إليه بالمال، وقال له: أمسك عليك دارك.