“الجار قبل الدار”، “دير ما دار جارك أو حول باب دارك”… بعض من مقولات شعبية مغربية عدّة تؤكد مكانة الجيران لدى بعضهم. وكثيرة هي الأمثال والحكم التي تحدثت عن الجار وتحمل مجموع القيم والمبادئ التي يجب أن تكون عليها الجيرة حتى تكتمل، وهي عبارات باتت اليوم مجرد أقوال رددها أسلافنا في الماضي، كونها لم تعد تتماشى مع الواقع الذي نعيشه، بسبب تدخل عدة عوامل ساهمت من قريب أو بعيد في القضاء على صور حسن الجوار، في ظل إيقاع الحياة المتسارع والتطورات التكنولوجية الراهنة.
بعيدا عن المقولات التي كانت في الماضي ترجمة صادقة لما هو عليه حال الجيران، يأتي الواقع اليوم ليبين أن الأمور لم تعد كما كانت في السابق. فالعلاقات الماضية التي كانت تنسج بين الجيران وتتسم بالانسجام والتكافل والعفوية، لم تعد كذلك. وعلى الرغم من أن العلاقات ما زالت إيجابية بين الجيران، فإن روابط كثيرة تقلصت بصورة ملحوظة.
جيران أيام زمان، كانوا يحافظون على ودهم بعضهم لبعض، ذكريات جميلة وحنين للماضي، وأتذكر كيف كان الجيران يطلبون حاجاتهم البسيطة من بعضهم، “كتسلم عليك أمي وتقول ليك واش عندكم شوية الملح” أو “النعناع”، أصبحت اليوم هذه الطلبات قلة ذوق. حكايات الجيران مادة تشعل الحنين، وتبث الروح في العلاقات، وتنفض الغبار عن عادات نتداولها اليوم في فقرات التراث.
عند الحديث عن حكايات الجيران، لا بد من التغلغل في تفاصيل أعمق، تُحيي المشهد بألوانه وأصواته وروائح الطعام الصاعدة من البيوت. كان العرف أن يتقاسم الجميع الأكل الذي ذاعت روائحه في الحي، وألا يعود الإناء من بيت الجيران خاليا، فحسن الجيرة تشهد عليها الأواني التي داخت جيئة وذهابا بين بيوت الحي دون أن تضيع.
كان العرف أن يحرص الجيران على حضورهم في الأحداث الخاصة على بساطتها. جلسات «الشاي» المسائية التي لا تتجاوز مكوناتها “حرشة وبراد أتاي”، تتسلل رائحتها عبر الأبواب المفتوحة. كان العرف أن تجتمع نساء الحي في ليالي الصيف، يفرشن الحصير، يتسامرن معا، ويتبادلن الأحاديث الودية، وأخبار الحي. وفي الطرف الآخر كان يجتمع أطفال الحي في ألعاب جماعية، تعددت أشكالها وتنوعت صورها.
وإذا حدثت مشاكل بين الجيران، بسبب شجار بين الأطفال، تدخل رجال الحارة لحلها وتحجيمها، وتقريب وجهات النظر بينهم بالطرق السلمية، حتى تعود المياه إلى مجاريها، ولتعود الألفة والمحبة والمودة من جديد بين الجيران.
كان الجيران في الزمن الماضي أسرة واحدة مترابطة، وكان الأبناء يتربون وسط جيرانهم، يراقبونهم إذا خرجوا من البيت، ويحاسبونهم على أخطائهم، مثلما يحاسبون أولادهم، دون إبداء أي احتجاج أو سخط، فكان تأديب الجار لابن جاره واجبا تفرضه عادات وتقاليد الجيرة.
وتبقى ذكريات الجوار مستيقظة تنادي كل أسباب العودة لها وعدم نسيانها، الكل منا يحن لأول مسكن احتضنه وألف دفأه، وجيران عاش معهم وبصموا كل مفاصل حياته الأولى، أناس تقاسمنا معهم شربة الماء ولقمة العيش وواجهنا الظروف نفسها، خاصة عندما ترسم المجاورة ذكراها الطيبة في القلوب. وهذه نداءات صريحة لإحياء تلك اللحظات مجددا، وترميم ما تبقى منها.