“جار اليوم ليس هو جار الأمس”، مقولة تتردد على ألسنة الأغلب منا كلما فتحنا النقاش حول الجار وحسن الجوار، والشماعة التي نعلق عليها تبريراتنا لانقطاع الصلة بيننا وبين الجيران هي انعدام الثقة في هذا العصر، وتحلي الجار بالخصال السيئة من قبيل: الغيرة، والحسد، والشعوذة، وإفشاء الأسرار، والتدخل فيما لا يعنيه، وكثرة الخلافات والمشاحنات.. ولهذا فالحل الأفضل والأوحد هو شعار “إغلاق باب الدار أسلم لك وللجار”.
قد تكون بعض تبريراتنا سهامها صائبة بحكم بعض التجارب والعلاقات الفاشلة مع ثلة من الجيران، ولكن القشة التي قصمت ظهر الجيرة هو التعميم الذي يركب على موجته العامة والخاصة من الناس، فكلما ذكر الجار أو الجارة إلا ونسمع سلسلة من الشكاوى القائمة على التوجس والريبة والشك، وكأن الجار هو مربط الفرس في تلاشي العلاقات الإنسانية، وخفوت صوت الضمير، وانعدام الثقة وتلاشيها، وغلبة الأنانية والانتهازية، وانحياز البعض منا إلى الانفرادية والعزلة خوفا من مشاكل هو في غنى عنها كما يعتقد، وإن كان عين الصواب في العلاقات مع الجيران هو التواصل والتواد المبني على حدود الشرع كما نص ديننا الحنيف دون تفريط أو إفراط.
نعم قد نتفق أن جار اليوم ليس هو جار الأمس، فلكل زمن رجاله بطباعهم وثقافاتهم وعاداتهم ومشاربهم المختلفة، ولكن هل القيم تتغير عبر العصور والأزمنة؟ وهل تتلاشى عبر الأجيال؟
لقد تشربنا قيمة حسن الجوار منذ نعومة أظافرنا، فقد فتحنا أعيننا والجارة تدخل صباح مساء إلى بيتنا، تسأل عن حالنا وأحوالنا، وتتهمم بهمومنا ومصابنا كأنها فرد من عائلتنا، كانت العلاقة بيننا وبين الجيران قائمة على التواد والتلاحم والتراحم في الشدة والرخاء. ومن أبهى صور حسن الجوار، أن الجارة كانت تتجه وزوجها لأداء مناسك الحج تاركين الأبناء في كنف الجيران، عوض ترك الأمانة لأسرهم قصد الرعاية والحماية، وهذا يرسخ مفهوم الجيرة الطيبة الذي تعلمناه من ديننا الحنيف، فمنذ أن بزغ نور الإسلام حرص كل الحرص على ترسيخ جملة من القيم والأخلاق الفاضلة في نفوس المسلمين، ومن أهمها حسن الجوار باعتباره سمة تبرز السمو الأخلاقي لتعاليم الإسلام، ومظهر من مظاهر تمام الإيمان وكماله. عن أَبي هريرة أَن النَّبيَّ ﷺ قَالَ: (واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، قِيلَ: مَنْ يا رسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذي لا يأْمنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ) 1.
فالحديث النبوي يحث على أهمية حسن الجوار وأثرها على تمام الإيمان وكماله وعلى الفطرة السليمة، فإيذاء الجار يعد دليلا على ضعف الإيمان وتقصيرا في تطبيق أوامر الله ووصايا الرسول ﷺ في الإحسان إليه.
وفي مقابل هذا الحديث الذي نهانا عن أذية الجار إما بالبطش باليد أو اللسان، نجد حديثا آخر ينص على إكرام الجار وحفظه من الأذى والضرر، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره) 2.
فالخيرية عند الله تعالى تتجلى في وجوب إكرام الجار والتودد إليه وتعهده بالخير والعطاء المادي والمعنوي وكف الأذى عنه. وقد فطن المؤمن فيما مضى لأهمية حسن الجوار، فحرص حرصا شديدا على الاعتناء بالجار، وتمتيعه بكافة حقوقه التي كفلها له الإسلام، وكيف لا يعتني المؤمن بالجار ويحسن إليه، والله سبحانه جل شأنه قرن حسن الجوار بعبادته في قوله: وَاعْبُدُواْ اُ۬للَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَيْـٔاٗۖ وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰناٗ وَبِذِے اِ۬لْقُرْب۪يٰ وَالْيَتَٰم۪يٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْج۪ارِ ذِے اِ۬لْقُرْب۪يٰ وَالْج۪ارِ اِ۬لْجُنُبِ وَالصَّٰحِبِ بِالْجَنۢبِ وَابْنِ اِ۬لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتَ اَيْمَٰنُكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاٗ فَخُوراًۖ 3، لقد أمرنا الله بعبادته والانقياد له وحده دون شريك له في الربوبية والعبادة، وقرنها بالإحسان للوالدين وتأدية حقوقهما وحقوق الأقارب واليتامى والمساكين، ثم حقوق الجار وذلك بتعهده بالهدية والصدقة ودعوته إلى الله تعالى قولا وفعلا.
كما أقر صفيه وخليله هذا الأمر في الحديث النبوي، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني مالك عن يحيى بن سعيد قال أخبرني أبو بكر بن محمد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) 4.
وبهذا تتجلى لنا بوضوح تام أهمية الإحسان إلى الجار، جار اليوم الذي بخسناه حقه في حسن الجوار بالتوجس والحذر منه قبل قربه، وقبل إقامة علاقة بيننا وبينه بحجج واهية، قد تكون سببا في حرماننا من قربة عظيمة نطلب بها وجه الله الكريم، ونسلك بها مسالك الإحسان. فلنشمر جميعا إلى عودة المياه إلى مجاريها مع أهل الجوار ليتشرب أبناؤنا هذه القيمة العظيمة.