رأيت فيما يرى النائم حلما جميلا؛ رأيت كأن موعد الحج قد حل، وضيوف الرحمن يُعدون الحقائب ويعدون معها القلوب. ورأيتني معهم. حقيبتي قلبي، الذي يحمل من الشوق مثلما حملوا.
الكل هنا يخاطبك والدموع تذرفها عينان شاحبتان من شدة الوجد. لا أحد يطاوعه لسانه ليصف حقيقة ما يشعر به وهو يجد نفسه فجأة ملقى به وسط زحام المحبين وقد زجت به الأيدي الخفية إلى عتبة الكعبة الشريفة… كأنما خاطف يخطف قلبك ويلصقه بجدار البيت العتيق. تطوف بجسدك ظاهرا، والحقيقة أن قلبك هو الذي يطوف بك ويحملكَ.. حتى لإنَّك لا تملك أن تسترده إلى مكانه. هيهات هيهات.
وهل يستغني الظمآن عن الماء وقد تزمزمت الروح وذاقت عذب الشراب.
مع كل تلبية تشعر كأن خلايا جسدك تريد أن تخرج منك، لا شيء يعكس حقيقة ما يلفك من سكينة وفرحة ورهبة وعشق وهيام. الناس من حولك عدم. كأنك وحدك…
تستغرب… كيف لا تبالي بكل هذا الحجيج الذين تضج أصواتهم منادية “لبيك”. تعجب حقا من انشغال كل وافد بمن وفد عليه… الكل، في ضيافة الرحمن؛ منفرد بمناجاته. أية حقيقة هذه!
تنهي طوافك لتصلي ركعتين عند “مقام إبراهيم” وكأنك تعترف بعظمة هذا البناء الذي أقامه سيدنا إبراهيم رفقة ابنه سيدنا إسماعيل عليهما السلام.
يتقلب بك الحُلْم فجأة إلى تلك الأم العظيمة التي جعلت قلبها مستقر اليقين. (إِذَنْ لن يُضَيِّعُنَا الله)؛ يلهمها في قمة الحاجة والافتقار والانكسار في هذا المكان غير ذي زرع، أن تحملها قدماها المباركتان مهرولة من الصفا إلى المروة حتى صفا لها الحال. سبعة أشواط في كل شوط تلقي بثقل الضعف والهزيمة والخوف والعطش والجوع والوحدة والغربة… أحوال بشرية مضنية، لكنها كانت مفاتيح لنيل شرف العبودية.
ينبع الماء من تحت قدم فلذة كبدها وأقرب مكان إلى قلبها، حيث الفرج قاب قوسين أو أدنى وإن كان السعي أبعد ما يكون. لقد كانت أما وكفى.
ارتوى سيدنا إسماعيل وارتوت معه أمه وهي تعانق الفرح بالله… أجل لم يضيعهما الله.
تأخذ نصيبك من الشرب حتى تتضلع، وأنت تشرب تشعر كأن كل ذرة منك تتجدد بهاء ورونقا.. كل خلية تغتسل نافضة عنها حطام الدنيا. تتخفف… تشعر كأن أجنحة نبتت لديك تحملك إلى أعالي المعاني.
اللحظة لحظة الرفعة والعلو والسمو.. إنك في الحضرة القدسية ضيف من ضيوف الرحمان .
ها قد شربت وارتويت فلتسعَ سعيَكَ ولتتخلص من التعلق بالأسباب… تجرَّدْ بكل يقين من حولك وقوّتك، عِش منتهى ضعفك، فالفرج أقرب إليك مما تتخيل… هرول إلى مولاك، عجِّل، فقد أوشكت على الوصول.
يبيت الحجاج بمِنًى لينالوا المُنى. يبيتون وهم يحتضنون أمنياتهم، ويبكّرون إلى عرفات وقد حان الموعد الأعظم؛ هنا توزع المعارف والأرزاق… هنا ترفع قلبك قبل كفك… هنا موعد النظر… من ذاق الحب كيف يمل؟ ! من ذاق الأنس كيف يستوحش؟ !
أنت، أيها الواقف في عرفات… اعلم أن الله يباهي بك الملائكة. يغبطك الملأ الأعلى وأنت تستقبل من الله الحب والحنان.. تَتَمَلَّأُ ذاتُك بالنور… يكسو قلبَك الجلالُ، فلا تكفيك الأرض لتحملك، ولسان حالك يقول:
خذني إليك يا رب
لا تردني إلي
افتح لي باب معرفتك
أدخلني في رحاب أنسك
استخلصني لك
ارزقني لذة النظر إلى وجهك الكريم
زدني شوقا إليك
أسكني في محراب مناجاتك
لا تجعل قلبي يلتفت إلى أحد سواك
حبيبي يا الله
اكتبني من أهل الحب والشوق
فإني لا أطيق البعد عنك.
تغرب شمس الواقفين والدموع لا تكف من المآقي والقلوب، لا أحد تطاوعه نفسه بالانصراف،
ليت العمرَ كلَّه عرفات.
ينفر الحجاج إلى المزدلفة وقد تزلفت القلوب المحبة إلى المحبوب الأعظم، يسابق الزمنَ خفقُ قلوبهم؛ هل رضيت يااا الله؟ هل قبلت السر وما أخفى؟ هل رضيت يا حبيبي يا الله.
في صباح العيد؛ رأيت الناس وقد ذبحوا الهدي وذبحوا معها نفوسا متجبرة، ذبحوا أنانية مستعلية، ذبحوا الشك وتلبَّسوا باليقين، جبروا عثراتهم وحلَقوا كل تلك الأوهام التي رابضت فوق رؤوسهم..
وهم يذبحون؛ تذكرت حدثا عظيما، تذكرت قطعةً من روح أمه وأبيه ملقى بكل الرضا والتسليم، ينتظر أن يمرر عليه أبوه سكين الطاعة، فلا راد لأمر الله. عجبا! هذا مشهد تنفطر له القلوب، تَحَمَّله سيدنا إبراهيمُ بجَلَدٍ عظيمٍ، ورضي به بحب عجيب، فمحابُّ الله لا تعلو عليها محابٌّ، وطاعة الله لا تساوَم ولو بالولد.
ثم لنُطلَّ على الحدث من جانب آخر؛ هذا الذبح كيف يا ترى تلقته السيدة هاجر؟ كيف تحمل قلبها المبارك كل هذا الألم؟ بل كيف حولته بثباتها منقطع النظير إلى طاعة وحب أيضا… لقد أيقنت أن الله يفعل ما يريد… هؤلاء هن أمهاتُنا، لا يتوقفن عن السعي حتى وإن كان سعيا متناقضا مع ظاهر الأحداث، لكنه في الباطن مَتَمُّ الحقيقة؛ يرفعن أكف الدعاء إلى المولى ليجبر كَسرة خواطرهن. يعتقدن من غير ذرة شك أن الله يحول حرارة النار التي تحترق على أكبادهن بردا وسلاما على قلوبهن. هن الأمان لقلوب تعرت من كل غطاء إلا غطاء الرضا بالله.
عند رمي الجمرات؛ لا يرى الحجيج إلا تلك الحجب التي طالما منعتهم عن الله، فكأنما يفضحون الأغيار الذين تطاولوا على صفاء قلوبهم.
عقبات تقطعها أثناء السير… أثقال تربك خطواتك… مع كل رمية تتخفف من دسائس النفس والشيطان…
من ذاق عرف، ومن عرف اشتاق.. وهؤلاء قد ذاقوا فلا أقل من أن يفطِنوا إلى الحُجُب المانعة عن القصد.
وفي ختام المناسك حل موعد لا يقوى عليه محب.
بأي قدم سيطوف طواف وداع الزمان والمكان؟!
يتركون أرواحهم هناك، وتعود أجسادهم وقد زادها الاشتياق لوعة وحرقة. تكاد الدموع تذرف طوفانا… هؤلاء الذين تبللت لحاهم وانتفخت أعينهم؛ لم تعد جوانحهم تطيق صبرا …
كيف لهم وداعَ النور وقد طعموا منه؟! كيف لهم البعد بعد أن أنَسوا بالقرب؟! كيف لمحب تلهَّفَ قلبُه ليشد الرحال إلى بيت الله الحرام أن يغادره ولمَّا تَشْبَعْ روحه منه؟ !
فلترمقي أيتها العين الولهانة بعمق هذا البهاء.
أعيدي الطواف مرة أخرى لترتسم في ذاكِرَتِك كلُّ لبنةٍ ارتفعت وكل ركن استقر.
انظري إلى هذا الحجر الأسود والمُلْتَزَم وحِجْر سيدنا إسماعيل… الباب ومَقام سيدنا إبراهيم… صَحن الطواف…
اللهم عودة إلى رِحابك، فالموقف جلل، ورهبة الوداع لا يشعر بثقلها إلا من ذاق…
انتهى موسم الحج ولم تنته مشاريع العودة إلى الله…
من حج بحب يجعل له مع الله مواعيد لا تخلف…
يأنس بالله في سره وعلنه…
يُقيم صلاتَه وقبلةُ الشوق بين عيني قلبه…
يرمي جمرات نفسه حتى لا تطغى على سيره إلى الله…
يذبح هواه ويقدم محاب الله على محابه…
يطوف بالدعاء على قلوب إخوته، ويسعى مع الصادقين حتى يأذن الله بالنصر القريب…
وهو في كل أحواله يلبي داعيَ الله.
“لبَّيكَ اللَّهمَّ لبَّيكَ، لبَّيكَ لا شريكَ لَكَ لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لَكَ والملكَ، لا شريكَ لَكَ”.