إن الاحتجاج والتظاهر والإضراب حق مشروع دستوريا، ومتعارف عليه دوليا، تضمنه وتبيحه جميع التشريعات والقوانين والاتفاقيات، بل إنه وسيلة سلمية وأسلوب راق في التعبير عن الحقوق والمطالب. والحراك التعليمي بالمغرب ضرب المثال في السلمية والثبات والصمود والإلحاح على تحقيق المطالب، حيث امتد النضال المتواصل لما يزيد عن ثلاثة أشهر، مع تنويع الأساليب والوسائل، بين الوقفات الاحتجاجية أمام المديريات والأكاديميات والوزارة، والمسيرات الإقليمية والجهوية والوطنية التي حضرها مئات الآلاف، والإضرابات الحضورية التي وصلت نسبة نجاحها لأكثر من 90% في أغلب المديريات.
إنه حراك تعليمي غير مسبوق في تاريخ المغرب الحديث، سواء من حيث المدة الزمنية التي دامت أكثر من ثلاثة أشهر، أومن حيث الوحدة والتنسيق الميداني بين جميع فئات هيئة التدريس، سواء أساتذة التعليم الابتدائي أو الإعدادي أو الثانوي، الرسميين أو الذين فرض عليهم التعاقد، بل وحتى باقي الهيئات إما تضامنت عبر بيانات وإما انضمت للحراك وشاركت في كثير من المحطات النضالية، فأصبح الحراك التعليمي بالمغرب المادة الأولى لكثير من القنوات والجرائد العالمية. فكيف يا ترى كانت البداية الأولى لهذا الحراك؟ وما هي الأسباب الخفية التي ساعدت على نجاحه وضمنت له الاستمرارية؟
انطلقت الشرارة الأولى لهذا الحراك مع اتفاق 14 يناير 2023؛ الذي لم يستجب لمطالب هيئة التدريس، وخاصة فئة الثانوي التأهيلي التي كانت تطالب بالدرجة الجديدة التي سبق أن وعدت بها الحكومات السابقة في اتفاق 26 أبريل 2011، وكذلك تحصين إطار الثانوي التأهيلي. في هذا السياق ستتم الدعوة لتأسيس تنسيقية خاصة بالثانوي التأهيلي في 17 يناير 2023، حيث انعقد اجتماع اللجنة التحضيرية بمقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بمدينة الجديدة، وعلى رأس مطالبها إحداث درجة جديدة، وكذلك رفض أي محاولة لإدماج سلكي الإعدادي والتأهيلي في النظام الأساسي الجديد، نظرا لخصوصية كل سلك، ومن مخرجات هذا الاجتماع الاتفاق على زمان ومكان للإعلان عن تأسيس التنسيقية الوطنية، وقبل ذلك التواصل مع جميع المدن المغربية من أجل تأسيس تنسيقيات محلية وانتداب من يمثلهم لتأسيس المجلس الوطني، حتى تكون الهيكلة مبنية على إشراك جميع الأساتذة، ويعكس المجلس الوطني بطريقة ديمقراطية إرادة الأساتذة. هكذا كانت البداية الأولى للتأسيس، حيث تفاعلت بعض المديريات ولم تتفاعل أخرى، كما تفاعلت بعض المؤسسات باختيار منسق يمثلها ولم تتفاعل أخرى، وشيئا فشيئا أصبحت التنسيقية تمتد وتتسع وتعرف انخراط المزيد من الأقاليم والجهات، بل وأعلنت عن مجموعة من المحطات النضالية، لعل أبرزها كان مقاطعة تصحيح الامتحانات الإشهادية في يونيو 2023، والمطالبة بتوفير الظروف الملائمة التي تضمن كرامة الأستاذ، وكذلك الزيادة في قيمة التعويضات عن التصحيح، وبعد التواصل مع المديريات الإقليمية التي وعدت بتوفير كل ما يحتاجه الأساتذة والتفكير السنة المقبلة في الزيادة في قيمة التعويضات، اتفق السادة الأساتذة على تعليق الإضراب والشروع في عملية التصحيح.
وكانت التنسيقية الوطنية لأساتذة الثانوي التأهيلي في هذه المرحلة يونيو 2023 مازالت في بدايتها الأولى، ومازال انخراط الأساتذة في ما تعلنه من خطوات نضالية ضعيفا، لا يرقى إلى مستوى التطلعات، بل من الأساتذة من كان يشكك في النوايا والخلفيات، ويعتبرها امتدادا لإحدى النقابات، تريد من خلالها التشويش على ما جاء به اتفاق 14 يناير من مكتسبات، ورغم كل هذا وذاك، رغم ضعف التفاعل والتواصل والانخراط، رغم كل الإكراهات والصعوبات والمشوشات، بقيت التنسيقية صامدة تدافع عن سلك الثانوي التأهيلي، وتدعو إلى الانخراط في الهيكلة عبر انتخاب منسق عن كل مؤسسة، إلى غاية يوم الأربعاء 27 شتنبر 2023 تاريخ المصادقة على القانون الأساسي من طرف المجلس الحكومي بسرعة قياسية دون استشارة الشغيلة التعليمية، فكانت النتيجة غضبا كبيرا في صفوف الأساتذة، سيجعلهم ينخرطون بقوة في تنزيل وتنفيذ البرنامج النضالي الذي أعلنته التنسيقية، بل وسيتم تسريع وتيرة الهيكلة لتصبح جميع المؤسسات ممثلة وجميع المديريات مهيكلة، وأصبح المطلب الرئيسي هو سحب النظام الأساسي مع الزيادة العامة في الأجور والدرجة الجديدة، كما ظهرت تنسيقيات أخرى تطالب بسحب النظام الأساسي، فكانت أول وقفة وطنية تطالب بسحب النظام الأساسي والزيادة العامة في الأجور بما يتوافق وغلاء المعيشة يوم 5 أكتوبر 2023 بمناسبة اليوم العالمي للمدرس، فكان جواب الوزارة الوصية والحكومة، هو صدور النظام الأساسي في الجريدة الرسمية يوم 9 أكتوبر 2023؛ مكونا من 98 مادة تحدد هيئات ومهام ومسؤوليات وتعويضات الموظفين، فضلا عن عقوبات تأديبية.
ومن النقط التي أشعلت غضب الأساتذة المادة 58 ضمن الباب السادس، والتي لا تستجيب لمطلب الزيادة في الأجور والدرجة الجديدة.
إن المصادقة على القانون الأساسي وصدوره في الجريدة الرسمية في زمن قياسي رغم احتجاج الأساتذة على مواده وفصوله، كان سببا مباشرا في نجاح الحراك التعليمي واستمراره، وصمود الأساتذة ومصابرتهم، لأن الوزارة بهذه الخطوة تقول للأساتذة لا قيمة لوجهة نظركم، بل أنتم لا تعرفون ما يصلح لكم، أنتم قاصرون عن إدراك مرامي ومقاصد هذا النظام الأساسي، أنا وحدي أقرر ما ينبغي فعله وأنتم تخضعون.
الشيء الذي ولد في نفوس الأساتذة شعورا بالدونية وغياب الكرامة، لهذا أصبح مطلب سحب النظام الأساسي أو نسخه وتغييره بشكل جذري يساوي الكرامة، والمحافظة عليه والخضوع له يساوي المهانة، خاصة وأن كل مواده وفصوله لا تحفز الأستاذ أو تشجعه بل تخيفه وتحذره وتهدده، انطلاقا من المهام، ومرورا بالعقوبات، ووصولا إلى التعويضات.
ولعل من الأسباب الخفية التي ساعدت على نجاح هذا الحراك التعليمي غلاء المعيشة والارتفاع المهول في الأسعار، حيث أصبح الأستاذ عاجزا عن توفير ضروريات العيش الكريم لأسرته، ورغم ذلك عندما فكرت الدولة في الإصلاح لم تفكر في الوضعية الاجتماعية لهيئة التدريس، بل فكرت فقط في العقوبات والمهام والمسؤوليات، وكأن هؤلاء الأساتذة ينتمون لمجتمع آخر غير المجتمع المغربي حيث غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار.
ولعل من الأسباب أيضا ما تعيشه المدرسة العمومية اليوم من فشل متراكم، وتقهقر وتراجع متواصل، وانعدام ظروف ومقومات الجودة، حيث الاكتظاظ يصل أحيانا إلى 50 تلميذا في القسم الواحد، ناهيك عن الأقسام المشتركة بالنسبة للابتدائي حيث يدرس الأستاذ ثلاثة مستويات داخل فصل واحد، أما مسألة البرامج والمناهج فحدث ولا حرج.
والأساتذة سنوات وهم يطالبون بمراجعة البرامج والمقررات، والتركيز على القدرات والمهارات عوض المعارف والمعلومات، والتخفيف من الاكتظاظ حتى يأخذ كل تلميذ حقه في المشاركة والمصاحبة والفهم والاستيعاب، لكن الوزارة الوصية تصم الآذان عن ملاحظات الأساتذة واقتراحاتهم، وعندما فكرت في الإصلاح بدأت بالنظام الأساسي؛ ليس من أجل تحفيز نساء ورجال التعليم وتشجيعهم من أجل الانخراط في الإصلاح، بل من أجل تهديدهم بالعقوبات، وإثقال كاهلهم بكثرة المهام والمسؤوليات، فكان جواب نساء ورجال التعليم الرفض المطلق لهذا المرسوم، والاحتجاج والإضراب المتواصل والضغط بجميع الطرق والوسائل من أجل سحبه أو نسخه وتغييره، وكأن الأساتذة عوضوا عن سنوات الصبر والتحمل الطوال بهذا الحراك التعليمي غير المسبوق.
عموما يمكن القول إن التنسيقية الوطنية لأساتذة الثانوي التأهيلي كان لها دورا بارزا في نجاح هذا الحراك، ومنها انطلقت الشرارة الأولى، بل وكانت سباقة للاحتجاج على مضامين النظام الأساسي قبل صدوره من خلال المطالبة في فبراير 2023 بالدرجة الجديدة، وعدم إدماج السلك الإعدادي والثانوي التأهيلي في سلك واحد، وبعدما صدر مرسوم النظام الأساسي كانت أيضا سباقة لرفضه والمطالبة بسحبه.
كما أن مضمون النظام الأساسي وكذلك طريقة تمريره وسرعة المصادقة عليه، كان له دورا كبيرا في إشعال نار الغضب في نفوس نساء ورجال التعليم؛ فانخرطوا بشكل تلقائي في الحراك، كما أن غياب التحفيز المادي وعدم الزيادة في الأجور، رغم ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، جعل نساء ورجال التعليم يفقدون الأمل في هذا الإصلاح، ويتشبثون بالاحتجاج والإضراب من أجل انتزاع الحق في تحسين الدخل.
ولعل من الأسباب الخفية التي ساعدت على نجاح هذا الحراك التعليمي غير المسبوق، هو ما تعيشه القضية الفلسطينية اليوم من تحولات بعد أحداث 7 أكتوبر المباركة، حيث أصبحت غزة رمزا للعزة والكرامة والصبر والثبات، رمزا للصمود والتفاني في الدفاع عن الوطن والمقدسات، رغم الألم والقصف، رغم الحصار والدمار، فانعكس ما تعيشه غزة من صبر وتحمل، على نفوس وقلوب نساء ورجال التعليم بالمغرب، فتولدت عندهم الإرادة القوية والهمة العالية، وارتفع عندهم سقف المطالب والطموحات، وشعروا بالقدرة على الصمود رقم الاقتطاعات والتوقيفات.
لقد كان بحق حراكا تعليميا غير مسبوق، جاء في سياق داخلي وخارجي غير مسبوق، أبان خلاله نساء ورجال التعليم عن وعي كبير وثبات وصمود منقطع النظير في الدفاع عن المدرسة العمومية.