المحارب يأخذ لنفسه محطات للاستراحة ومراحل لتقويم المعركة والتفكير في المكاسب والسلبيات، من أجل استرجاع الأنفاس والاستعداد للمعارك القادمة والجولات اللاحقة، بنفس جديدة وطاقة متجددة، ووسائل وأدوات أخرى تضمن له تحقيق الأهداف والغايات بأقل الخسائر والتنازلات، والاستراحة هنا ليست تنازلا أو تراجعا أو ضعفا أو خوفا، بل هي عكس ذلك تماما، دليل واضح وبرهان ساطع على التخطيط الواعي والفهم الشامل والمسار الواضح، والسيناريوهات المحتملة والمعارك المنتظرة والمراحل المقبلة للحرب وخبرة عميقة بخدعها ومكائدها.
كان من الأفضل أن تكون استراحة نساء ورجال التعليم من معركة الكرامة، استراحة إرادية واختيارية، نتيجة وعي وتخطيط استراتيجي مسبق عبر بيان وطني، يعدد المكاسب، ويحذر من العواقب، ويشير الي الاستعداد لكل طارئ، من أجل الانطلاق بنفس جديد في جولات أخرى من معركة الكرامة، وكذلك من أجل المحافظة على وهج الحراك وقيمته وتميزه، حتى يكون مثالا لجميع القطاعات الأخرى، لكن جاءت هذه الاستراحة اضطرارية إلزامية متزامنة مع التوقيفات، عبر بيانات إقليمية محلية أو اجتهادات خاصة بالأفراد والمؤسسات ثم بعد ذلك فقط جاءت البيانات الوطنية، الشيء الذي سيجعلها تعطي لا محالة صورة تنازل وتراجع.
وهذا الرجوع بهذه الطريقة ساهمت فيه مجموعة من العوامل منها ماهو ذاتي مرتبط بخبرة الأساتذة في النضال وقناعاتهم وطريقة تفكيرهم سواء كانوا في قيادة التنسيقات أو في القواعد، ومنها ما هو موضوعي مرتبط بسياق الحراك ومراحله، والزمن الطويل الذي استغرقه حوار النقابات مع الحكومة، سواء في الشق المادي أو الشق المرتبط بتعديلات النظام الأساسي.
فأين تتجسد قلة الخبرة في التعامل مع الحراك؟
وماهي المحطات البارزة في الحراك التعليمي التي كانت تحتاج مواقف واضحة وصريحة؟
هل كان بالإمكان أن يكون رجوع الأساتذة بطريقة أخرى وفي وقت آخر؟
ثم ما هي الأسباب الموضوعية التي دفعت الحراك في هذا الاتجاه؟
أليست هناك أيادي خفية خططت ليكون رجوع الأساتذة بهذه الطريقة؟
بالنسبة للعامل الذاتي يمكن تلخيصه في قلة الخبرة وغياب التخطيط الاستراتيجي لمسار الحراك وطبيعة المراحل المقبلة والمعارك المنتظرة، وحضور التلقائية والعفوية والحماس والاندفاع، الشيء الذي جعل البرنامج النضالي مجرد ردة فعل على سلوكات الدولة، ومماراسات الوزارة الوصية، وليس فعلا نضاليا واعيا له وضوح في الرؤية، يعتبر معركة النظام الأساسي مجرد محطة من محطات الدفاع عن المدرسة العمومية، بل ويعتبر هذا الحراك التعليمي مجرد جولة من جولات الدفاع عن كرامة نساء ورجال التعليم وتحسين شروط اشتغالهم، ستتبعه جولات أخرى بوسائل نضالية أخرى ربما أكثر تأثيرا مثل الامتحانات االإشهادية، لذلك وجب التفكير في أساليب نضالية أخرى إلى جانب الإضراب، وكذلك مراعاة ظروف الأساتذة النفسية والاجتماعية حيث بدأ العياء والتعب ينال منهم.
كان اتفاق 10 دجنبر فرصة مواتية للتنسيقيات من أجل أخد زمام المبادرة وترشيد الفعل النضالي، والحفاظ على وحدة الصف الداخلي، وكذلك الحفاظ على تعاطف ودعم الأباء والأمهات والتلاميذ، وذلك من خلال تخفيف البرنامج النضالي، ليس لأن كل المطالب تحققت ولكن لأن جزأ من هذه المطالب في الطريق إلى التحقق، والأكثر من ذلك لأننا واعون بأن مطلب الكرامة والعدالة الأجرية لابد له من جولات متعددة من النضال، ومحطات أخرى من الصمود، لكن عكس ذلك اختارت التنسيقات التصعيد والمحافظة على نفس البرنامج النضالي، بل وتم اتهام كل من يقترح التخفيف بالتخوين والتخاذل، عليه الانسحاب من الحراك دون تعبئة أو تشويش، وللأسف بعد اتفاق 10 دجنبر انسحب بعض الأساتذة وإن كان عددهم قليل إلا أن الوحدة التي ميزت الحراك بدأت تضعف، لأن الكثير من الأساتذة الملتزمين بالبرنامج النضالي للتنسيقيات يختلفون مع هذا البرنامج ولا يعكس وجهة نظرهم.
ثم جاء اتفاق 26 دجنبر المرتبط بتعديلات النظام الأساسي، وهو أيضا كان فرصة مثالية للتنسيقيات من أجل جمع الشمل والمحافظة على وحدة الصف الداخلي، وإعطاء صورة جميلة عن هذا الحراك غير المسبوق والاستعداد لجولات أخرى من النضال للدفاع عن المدرسة العمومية، وذلك من خلال تعليق النضال عبر بيان وطني موحد.
لكن مرة أخرى اختارت المجالس الوطنية للتنسيقيات مواصلة النضال رغم أن التوجه العام داخل أغلب المؤسسات كان هو تعليق الإضراب والتفكير في أساليب نضالية أخرى مثل المسيرات الليلية والوقفات، ورغم الاختلاف والتباين في الآراء التزم الأساتذة بالبرنامج النضالي، لكن ارتفع بشكل ملحوظ أعداد الملتحقين بالأقسام، بعد ذلك ستأتي التوقيفات في حق بعض الأساتذة المناضلين وسنسمع عن تعليق الإضراب في بعض المديريات وسيجتمع الأساتذة في كثير من المؤسسات ويقترحون بالإجماع تعليق الإضراب، وبعد ذلك ستصدر البيانات الوطنية بتعليق الإضراب.
إنه حراك تعليمي غير مسبوق فمن الطبيعي أن تغلب عليه التلقائية والعفوية والحماس والاندفاع، وأن تنقصه الخبرة والتخطيط والوعي الشامل بكل الإكراهات والعقبات، لكن في الجولات المقبلة لابد من تخطيط، لابد من تحديد الأهداف بدقة ووضوح.
أما بالنسبة للعامل الموضوعي والذي جعل الحراك التعليمي يأخد هذا المسار ويفرض على نساء ورجال التعليم هذا الرجوع، يمكن تلخيصه في تماطل الوزارة الوصية في الاستجابة لمطالب الشغيلة التعليمية، واستغراق وقت طويل في جلسات الحوار مع النقابات.
الحراك التعليمي بدأ فعليا مع المصادقة على القانون الأساسي من طرف المجلس الحكومي يوم 27 شتنبر 2023، والاتفاق الجزئي الأول الذي يعبر عن استجابة الحكومة لبعض المطالب الجزئية للحراك كان يوم 10 دجنبر 2023. بمعنى شهرين ونصف تقريبا من المماطلة وعدم الاهتمام واللامبالاة بمصير الملايين من التلاميذ والتلميذات، رغم احتجاج الأمهات والأباء ودعمهم المطلق للحراك، بل وعوض الاستجابة السريعة للمطالب أخذت الحكومة في شخص وزير العدل تهدد نساء ورجال التعليم وتتحداهم وتتهمهم بأقبح النعوث.
وكأن الدولة كانت تراهن على عامل الوقت الذي من شأنه أن يؤدي إلى تراجع وهج الحراك التعليمي وتراجع نسبة المشاركة والانخراط في البرامج النضالية، ومن تمة الالتفاف على المطالب، وإلا ما معنى تقسيم الحوار إلى مرحلتين:
مرحلة للشق المالي، وهو أيضا تم تقسيمه إلى شق خاص بالتكلفة المالية للملفات الفئوية وشق خاص بالزيادة العامة في الأجور.
مرحلة تعديلات القانون الأساسي، والتي أخذت وقتا طويلا في النقاش والمدارسة والتحليل والتأويل من أجل تغير صيغة أو حذف كلمة أو جملة.
بعد جلسات الحوار الطويلة والمتواصل سيأتي الجزأ الثاني من الاتفاق وذلك يوم 26 دجنبر 2023، الذي سيقترح مسودة جديدة للنظام الأساسي تحتاج بدورها إلى المراجعة والتدقيق قبل المصادقة النهائية في مجلس الحكومة.
إذن تلاثة أشهر من المماطلة والتسويف والتأجيل والروغان، وكأن النظام الأساسي دستور مقدس لا يمكن تغييره أو تجويده، من 27 شتنبر 2023 إلى 26 دجنبر 2023 ثلاثة أشهر من النضال المتواصل والصمود والثبات، بالنسبة لنساء ورجال التعليم رغم العياء والتعب، رغم الاقتطاعات والتهديدات، فكان رهان عامل الوقت رهانا خاسرا بالنسبة للدولة وكان المتضرر الوحيد هم التلاميذ، فلم يبقى أمام الدولة من خيار من أجل تشويه صورة هذا الحراك التعليمي غير المسبوق والتأثير في عزيمة وإرادة مناضليه إلا التوقيفات، وذلك من أجل تخويف نساء ورجال التعليم ودفعهم دفعا للرجوع إلى الأقسام بشكل اضطراري، وأيضا من أجل الضرب في رمزية هذا الحراك وشعبيته حتى لا يتخذه باقي القطاعات أنموذجا يحتدى به.
على سبيل الختم
سيبقى هذا الحراك التعليمي المميّز شامة بين مختلف المعارك النضالية التي خاضتها الشغيلة التعليمية بالمغرب مند الاستقلال إلى اليوم، وسيحتفظ المغاربة في أذهانهم بفكرة جميلة عن رجل التعليم الذي يبذل أجرته في سبيل الدفاع عن المدرسة العمومية. إن هذا الحراك كان عبارة عن تمرين تطبيقي عملي لقيم الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، تمرين تطبيقي للاحتجاج السلمي والتعبير الراقي عن المطالب والحقوق، وكأن نساء ورجال التعليم وطيلة مدة الحراك وهم يعطون الدروس ليس في الحجرات ومع التلاميذ بل في الساحات ومع عموم الشعب، ويكفيهم فخرا أنهم خرجوا دفاعا عن المدرسة العمومية في وحدة ونظام وسلمية.
إنها استراحة محارب لاسترجاع الأنفاس وتنظيم الصفوف والتأمل العميق في مسار الحراك وأهم محطاته، إنها جولة من جولات الدفاع عن المدرسة العمومية التي تئن تحث وطأة الاكتظاظ والهدر وضعف جودة التعلمات، إن الحقوق والمطالب لا تتحقق ضربة لازب، بل لابد من صبر ومصابرة وطول نفس، لابد من الحفاظ على المكاسب ومسايرة الظرف بما يناسب، فمعركة الكرامة لازالت مستمرة ودرب النضال طويل، والدفاع عن المدرسة العمومية يتطلب سنوات إن لم نقل أجيالا من النضال والصمود.