يتجدد للطبقة الشغيلة في كل سنة موعد معنون بعيد العمال أو اليوم العالمي للعمال، عيد يحمل في طياته معاناة سقي العمال جميع أنواع المرارات، من هضم للحقوق، واستفحال للظلم والهوان، وتوسيع دائرة الانتكاسات، في ظل مطالبة الشغيلة المهنية بحقوقها المشروعة والتي صاحبتها اقتطاعات رهيبة في الأجور، ويا ليته كان أجرا مشرفا تحت وطأة قسوة المعيشة وغلاء الأسعار وانتشار الفساد، ومحاولة تضييق الخناق على المكتسبات العمالية، ومنع أي مطالب حقوقيه مستجدة، وكأننا أمام أزمة كساد حقوقي لم يشهده التاريخ.
في ظل هذه الأزمة الخانقة، لم تجد الحكومة بديلا سوى تجاهلها لمطالب هذه الشغيلة، والتي ما فتئت تطالب بها كل مناسبة دون أن تلقى آذانا صاغية، غير استعمال أدوات القمع والجهل والمنع والتعنت في مدارسة الملف، إضافة إلى عرقلة محاولات التوصل لحل وسط يرضي الجميع، عسانا نمتص جزءا من غضب الشغيلة ويأسها. مما نستنتج معه أننا أمام هدر صريح لكرامة العامل والموظف، والاستهانة بحقوق الإنسان وآدميته.
أقر دستور سنة 2011 في ديباجته، وبالضبط في الفصل 29، أن “الحق في ممارسة الإضراب حق يكفله دستور المملكة المغربية” 1، وما دام هذا الفصل موجودا في الدستور فلا يمكن لأي قانون تنظيمي كيفما كان شكله أن يسحب الضمانة الدستورية لهذا الحق، أو أن يمنع ممارسته، وإلا سنكون آنذاك أمام التخلي عما يسمى بسمو الدستور. على الرغم من أن هذا الأخير كما قال الأستاذ فتح الله أرسلان “تميز بأسلوب تعويمي، تحدث عن كل شيء ولم يعط أي شيء” 2.
والجدير بالذكر، أن القوانين التنظيمية إنما جاءت لتكملة الدستور وليس تعقيد مضامينه. غير أننا نهاب من أن يصدر هذا القانون التنظيمي الخاص بالحق في الإضراب بشكل يقيد النص الدستوري حتى ينتزع من اليد اليسرى ما تم منحه بشق الأنفس باليد اليمنى، وهو عادة القوانين عندنا.
وعليه فحق الإضراب يجب أن يبقى حقا مضمونا بعيدا عن كل المزايدات والمصالح والمؤامرات.
غير أن الملاحظ في الآونة الأخيرة، وما استتبعها من إضرابات متتالية في بعض القطاعات، تبين أن حماية هذا الحق أضحى صعب المنال والتحقيق، وإذا كان الأمر كذلك فيتعين علينا أن نتساءل عن اللاتوازن بين دستور سنة 2011 والممارسة العملية على أرض الواقع، فبدل توحيد وتوجيه الجهود إلى تحقيق التكامل والمرونة باعتبارهما مدخلين أساسيين يقودان إلى المصالحة والتغيير والتنمية، نجد أن نية الحكومة تنطوي على أمر آخر لا تحمد عقباه.
ثم أين يكمن دور الرقابة الدستورية على القوانين التي تمنع صدور نص قانوني معارض للدستور في حالة صدور قانون تنظيمي يضبط قواعد الحق في الإضراب بطريقة تجعل من هذا الأخير مستحيل التطبيق؟
وفي الوقت نفسه لا ننكر أن الحق في الإضراب لابد وأن ينظم بضوابط قانونية محكمة، يُتوخى منها مصلحة المشغل والأجير، وفي نفس الوقت يتخللها عدم تكريس مفهوم الرق والاستعباد والاستبداد وإصدار قوانين ساعية من خلال فصولها إلى تقزيم هذا الحق وإفراغه من محتواه.
وهكذا فإن ربح رهان المزاوجة بين مصلحة المقاولة ومصلحة الأجير، يجب أن يقوم على العدل وتغليب المصلحة العامة وتحقيق العدالة الاجتماعية ورفع مستوى الثقة بين الأطراف المتنازعة حتى نتمكن من تحقيق مصلحة الاقتصاد الوطني أيضا.
إن الكل يدرك أن الحق في الإضراب يعتبر الوسيلة الفعالة لإسماع صوت الطبقة العاملة 3، لاسيما وأنه مكسب تاريخي حققته هذه الطبقة بمجهودها الجبار، ولا يمكن لأي قانون عبر التاريخ عرقلة ممارسة هذا الحق. بيد أن إجراءات تنفيذ الإضراب يتعين أن تكون موسومة بالسلمية مع عدم التعسف في استعمال الحق، أو استغلاله لأغراض أخرى، أو الإساءة في تنفيذه عبر أعمال تخريبية فوضوية، أو ما شابه ذلك من أضرار جانبية تؤجج النزاع بين الأطراف، مما يؤثر سلبا على شرعية الإضراب. والذي يطمح الكثير من جعله عقيما لا فائدة ترجى منه.
وعلى الرغم من أنه لا يعدو (الإضراب المهني) عن كونه توقف جماعي عن العمل لممارسة الضغط على صاحب العمل، الهدف منه تحقيق مطالب مهنية لتحسين شروط عمل الأجراء، وهي مطالب لم يتم الموافقة عليها وتيسيرها من قبل المشغل في سبيل الاشتغال في جو مريح نفسيا معنويا وماديا، إلا أنه وبعد قطع الطريق أمام مسلسل تضييق الخناق على الحق في الإضراب بإصرار الشغيلة على المطالبة بحقوقهم المشروعة، يبقى الإشكال المطروح هو عملية الاقتطاع من أجور المضربين عن العمل بحجة القاعدة المسلم بها وهي أن كل حق يقابله واجب، وأن الأجر يكون مقابل العمل. وذلك كان خيار الحكومة – أي الاقتطاع من الأجور – لمجرد عدم القيام بواجب العمل طيلة فترة الإضراب، على الرغم من أن هذا الأخير هو وسيلة يتخذها المضرب للضغط على صاحب القرار لتحقيق مصالح ومطالب مشروعة مبنية على أسباب جدية حقيقية تم رفضها سابقا من قبل المشغل أو الحكومة.
فكيف يطالب طالب الحق بحقوقه من غير إضراب عن العمل في ظل تعنت المشغل والحكومة وعدم اقتناعهم بمصلحة الأجير والمقاولة؟
فالأجير هو المقاولة كلها، كما أن الشعب هو الدولة كلها، فلا يمكن أن تنجح مقاولة بدون أجراء، ولا يمكن أن تستمر الدول بدون شعوب.
وفي هذا السياق نعيد طرح السؤال بمنهجية أخرى: ما دام الإضراب حق مشروع فلم اللجوء لآليات قهرية تنكيلية كالاقتطاع من أجور المضربين عن العمل؟
يحتدم النقاش هنا حول إشكالية أخرى تتمحور حول الخلل الذي مارسته الحكومة في هذا الملف، حيث تلزم المضرب عن العمل بعدم التعسف في استعمال حقه في الإضراب، في حين تتخذ هي جميع أنواع التعسف والتعجيز كإصدارها قرار الاقتطاع من الأجور. وهذا كله من أجل ثني أصحاب الحقوق عن المطالبة بمصالحهم المهنية، مما يمكن معه القول إن الاقتطاع من الأجر تعتبره الحكومة عقوبة قاسية -ورد فعل منافي للعقل- على ممارسة حق دستوري، والتحجج أيضا بغياب القانون التنظيمي الخاص بهذا الحق.
وفي ظل هذه الأجواء نستغرب كيف يمكن معالجة التمويه والتضليل وإغلاق باب الحوار من طرف المشغل والحكومة مع عدم التزامهما بتحقيق احتياجات الشغيلة، في نفس الوقت نجد الحكومة تستعرض عضلاتها في التضييق على حق أساسي وجوهري يبقى حلا أخيرا في انتزاع المطالب الاجتماعية. لا سيما وأن النضال المستمر كشف حقيقة الدروس المستخلصة طيلة هذه السنوات، والتي تتمثل في التأكد من عدم الرغبة في تصحيح الأوضاع الاجتماعية للشغيلة، ومحاولة إفشال كل محاولات الحوار الجاد والمسؤول، وفشل السياسات الاجتماعية، مما ساعد على تفاقم الأزمة الاجتماعية والمطلبية وانهيار الثقة بين الأطراف، وعدم وجود رغبة حقيقية لتجاوز الأزمات وتداعياتها.
وتأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن الحكومة أصبحت غير قادرة على التفاعل والتعامل مع العديد من الملفات المطلبية والحقوقية، وأن محاولة تغلغل فكرة استعباد الناس وانتهاج وسائل القمع وتكريس النهج الأحادي في التعامل مع القضايا لضمان تفريغ قوانين مستبدة تحد من حريات وحقوق الشغيلة، إضافة إلى الإقصاء الممنهج والتضييق على الحريات النقابية والسعي لكسر شوكتها، ومحاولة الإجهاز على المكتسبات من وسائل الدفاع عن الحقوق، ومحاولة تشتيت التنسيقيات والنقابات والجمعيات المهنية، والقضاء عليها، لدوافع كفيلة بتفاقم الأزمات وتوسيع دائرة النزاعات، خاصة وأن بلدنا الحبيب يتواجد على منحدر خطير ينبئ بوضع مأساوي كارثي قد ينفجر في أي وقت.
إن المدخل الأساسي لحماية حقوق الشغيلة وحرياتهم يتمثل في التأسيس لنظام سياسي ديمقراطي يلتزم بالحقوق والحريات، ويكرم الإنسان تكريما متناسبا مع التكريم الإلهي، ويجعل منه منطلقا وهدفا لها 4.
[2] فتح الله أرسلان ،”ما زلنا بعيدين عن الدستور الديمقراطي منهجية وشكلا ومضمونا”، مقال منشور في بوابة العدل والإحسان بتاريخ 12 يونيو 2011.
[3] عبد اللطيف خالفي، الوسيط في مدونة الشغل، ط 2006، مراكش.
[4] نص الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، أكتوبر 2023، ص 39.