كنا وما زلنا نستقي من القضية الفلسطينية دروسا وعبرا في اليقين والصبر والثبات؛ أهلها شعب أبي شجاع يدافع عن أرض مباركة، هي في الحقيقة ملك وأمانة في عنق كل المسلمين، أرض هي أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بالمقابل نجد الصهاينة الغاصبين، مجموعة قليلة لا وطن لهم ولكنهم يمكرون ويخططون ويفسدون ولا يصلحون، همهم أن تكون لهم دولة ولكن هيهات هيهات، وكيف يكون لهم هذا وهم المغضوب عليهم والمبعدون من رحمة الله والتائهون في أرض الله.
فلماذا إذن ابتلى الله تعالى هذا الشعب الأبي ومعه كل الشرفاء الذين يتألمون ويستنكرن وينددون بهذا الظلم المسلط من الصهاينة ومن والهم؟
للإجابة عن هذا السؤال المهم لا بد من الوقوف على الحكم من الابتلاء.
1- حكمة التفرد والقدرة الربانية
فالله عز وجل هو خالقنا وبارئنا وهو الفاعل الذي يقول للشيء كن فيكون، يختبرنا ويمتحننا لنتعلم ولنعلم أن النصر والفرج بيده عز وجل والمطلوب منا التوكل عليه، نأخذ بالأسباب ونقر بالعجز والافتقار لمدده وعونه ورحمته، ونستمطر توفيقه وتأييده سبحانه وتعالى.
ففي الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: “يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا. يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا. يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا. يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ. يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ”. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تظالموا” 1.
2- حكمة التمحيص والرجوع إلى الله عز وجل
من طبع الإنسان أنه يغفل عن ماهية وجوده في الدنيا ويطغى وينسى ذكر الله ويعصى ربه، لكن الله تعالى يبتلينا بالفقر أو الخوف أو موت قريب أو مرض أو غير ذلك ليختبر صبرنا وإيماننا، وليميز الخبيث من الطيب، قال ابن القيم في زاد المعاد (3/477): “واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عَدَدِهم وعُدَدِهم وقوة شوكتهم ليضع رؤوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله واضعا رأسه منحنيا على فرسه حتى إن ذقنه تكاد تمس سرجه تواضعا لربه وخضوعا لعظمته واستكانة لعزته” انتهى .
وقال الله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ آل عمران/141.
وأيضا لنستفيق من غفلتنا، لنتوب ونندم على ما اقترفنا من معاصي ونقلع عنها ونعزم على عدم العودة إليها ولنرد المظالم إلى أهلها، فالله عز وجل يقول: وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِن نفسِكَ النساء/79، ويقول سبحانه: وَمَا أَصابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ الشورى/30.
فالبلاء فرصة عظيمة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة؛ فإنَّ الله تعالى يقول: وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ السجدة/21، والعذاب الأدنى هو هم الدنيا ونغصها وما يصيب الإنسان من سوء وشر.
فالأمة كلها معنية بما يقع في فلسطين، وكلنا مخاطبون بتغيير المنكر ونصرة المظلومين المستضعفين، وبالتوبة الجماعية حتى نتخلص من الوهن الذي أصابنا وهو حب الدنيا وكراهية الموت كما أخبر بذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
3- حكمة التشريف ورفع الدرجات
فالله تعالى يبتلينا ويصبرنا ليكفر عنا سيئاتنا ويأجرنا وليرفع مقامنا عنده حتى ولو كان عملنا لا يؤهلنا لتلك الدرجة العالية، وأي مقام أعظم بعد النبوة من الشهادة في سبيله، فقد روى مسلم (2572) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً”.
وجاء في سورة آل عمران قوله تعالى: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ آل عمران/140.
قال الإمام السعدي في تفسير هذه الآية: ويتخذ منكم شهداء وهذا أيضا من بعض الحكم، لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين، أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس، لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم، والله لا يحب الظالمين الذين ظلموا أنفسهم، وتقاعدوا عن القتال في سبيله، وكأن في هذا تعريضا بذم المنافقين، وأنهم مبغضون لله، ولهذا ثبطهم عن القتال في سبيله.
كانت تلكم من أهم الحكم التي نستنبطها مما يحصل لنا من ابتلاء ومحن وفتن، فالأمة الإسلامية كلها ابتليت بالهوان والضعف والظلم والاستهانة بمقدساتها والحل هو الرجوع إلى الله وتحكيم شرع الله الذي تم إبعاده عن الواقع المعيش، ويقيننا أن الله عز وجل ناصرنا ومتم نوره ولو كره الكافرون. ثم ابتلاء من نوع آخر: استشهاد وقصف وإخراج من البيوت وتهجير وتخويف لأهل فلسطين الأبية، خصوصا أهل غزة والقدس، وهو والله لاصطفاء نوعي لخلقه المؤمنين المتقين وليتخذ الله منهم شهداء وليرفع درجاتهم.
فاللهم انصر إخواننا في فلسطين، وثبت أقدامهم، وسدد رميهم، وأفرغ عليهم صبرا، وأعز الإسلام والمسلمين، وردنا إليك ردا جميلا يرضيك عنا، ودمر الصهاينة وأعداء الدين، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، ولا ترفع لهم راية أبدا. آمين.