أعلن السيد هيثم المالح قبل مدة ليست بالبعيدة عن جهود مبذولة من طرفه والمجلس الذي يرأسه وذلك من أجل تشكيل حكومة للفترة الانتقالية ما بعد الأسد، وقد جاء هذا الإعلان حينها بعد طلب فابيوس – وزير الخارجية الفرنسي – من فرقاء المعارضة وللمرة الثانية تشكيل حكومة انتقالية تتولى فترة ما بعد الأسد، فهذا الأمر لم يكن بالجديد آنذاك، ففي الأسبوع الثاني من شهر رمضان المبارك – لعام 1433 – تم الإعلان على ما اصطلح بتسميته مجلس أمناء الثورة السورية الذي انبثقت عنه ما أسماها أصحابه الحكومة الانتقالية السورية وذلك من أرض الكنانة وقد اختير حينها لرئاستها المعارض السوري هيثم المالح – يشار أن هذا هو نفس المجلس الذي عمل على تشكيل الحكومة للمرة الثانية بعد فشل خطوته الأولى التي كانت متسرعة – المجلس الذي أسسه سبعون من المعارضين، طبعا لا يمثل الشعب السوري بأكمله ولا حتى فئة عريضة منه، كما أن هذه الخطوة لم تلق ترحيبا من أبرز المتحكمين في سير الأحداث على الأرض وهو الجيش السوري الحر إضافة إلى أحد أكبر التنظيمات المعارضة حينها والتي تشكلت بعد اندلاع الثورة “المجلس الوطني السوري” وهو ما يفسر فشلها فيما بعد. والمتتبع لسياق هذا الإعلان يستوقفه حدثان بارزان وقعا في تلك الفترة. أحدهما أثار انتباه كل المتابعين لسير الأحداث بينما الآخر قد يكون البعض لم يلق له بالا رغم أهميته الدلالية.
الحدث الأول تمثل في تفجير مبنى الأمن القومي في قلب الحصن الحصين للنظام، العاصمة السياسية، وما أعقبه من انشقاقات كبيرة وما نتج عن ذلك من سيطرة الجيش السوري الحر وانتشاره الملفت في أغلب ربوع البلاد، الأمر الذي جعل كل المراهنين على بقاء النظام سواء ظاهريا أو في الخفاء، يعيدون حساباتهم.
الحدث الثاني تمثل في مطالبة الغرب على لسان فرنسا بالخصوص – على اعتبار أن الغرب يلعب لعبة قذرة في إدارة الصراع السوري السوري – للمعارضة السورية بتشكيل حكومة انتقالية تتسلم زمام الأمور بعد نظام الأسد، هذه المطالبة لها دلالة كبيرة في أن الغرب أيقن تماما بأنه من غير المجدي التعويل على بقاء نظام الأسد، وبالتالي دعمه ولو بطرق غير مباشرة رغم كثرة العقوبات الغربية العقيمة.
إذن هناك نظام أصبح على شفا الانهيار، وهناك غرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية يتطلع للحفاظ على حدود الشمال الشرقي ل”إسرائيل” أن تبقى آمنة مؤمنة للكيان الغاصب، والأكيد أنه كما كان الحال مع نظام مبارك فكذلك هو الحال مع نظام الأسد لن تجد «إسرائيل» ومعها الغرب أحدا أفضل منه لحماية حدودها وتركها في هناء ورغد تتمتع بخيرات الجولان خاصة بحيرة طبرية دون أدنى مشاكل، رغم كل ما يقال عن مقاومة هذا النظام فالحقيقة على الأرض تكذب كل ذلك، فالنظام الذي يفضل إبادة شعب بأكمله على أن يتنحى عن كرسيه، لا يَحذَر أصلا أن يدخل حربا مع عدو قد تبيد هذا الشعب لأنه أصلا لا يفكر في سلامة الشعب بل يفكر فقط بسلامة الكرسي.
وبالتالي هذان العاملان جعلا الغرب يفكر مليا في من يخلف هذا النظام، وهو هنا يأخذ بقاعدة أخف الضررين، فإن لم يكن الأسد فعلى الأقل نظام آخر، أقل شيء عنده أن تكون مرتكزاته الإيديولوجية لا تقوم على استعداء الغرب، وهذا لا يمكن أن تأتي به صناديق الاقتراع – والتجربة أتبثت ذلك في تونس ومصر – وبالتالي كان عليه استباق الأحداث والإيعاز إلى بعض المعارضين بإمكانية دعمه لهذه الخطوة. وهو ما تلقفه البعض على عجل، كما أن هناك نقطة أساسية، فالمجلس الوطني حينها والمدعوم من طرف تركيا أساسا، كان على الغرب أن يجد له المنافس، وذلك حتى لا تكون تركيا هي الفاعل الأكبر في سوريا ما بعد الأسد، خاصة وأن الرياح التركية لم تعد تجري بما تشتهيه سفن الغرب كما أن الملاحظ أن الحكومة المعلنة حينها يقودها معارض – وهو الذي يحاول إعادة الكرة من جديد بصيغة أخرى – كان إلى وقت قريب يعيش في داخل التراب السوري، ورغم بطش النظام السوري وحكمه الدموي، لم يكن يتعرض كثيرا له، على اعتبار أنه لم يكن يشكل له خطرا استراتيجيا، عكس الإخوان المسلمين الذين ينص الدستور صراحة على أن الانتماء إليهم تكون عقوبته الإعدام، وبالمناسبة فهم أحد أبرز مكونات المجلس الوطني السوري، وهنا نعرف لماذا إذن هذه الحكومة الانتقالية، فعلى رغم تيقن مؤسسيها أنها لن تكون لها الحظوة الشعبية المرجوة خاصة بعد معارضتها من طرف الجيش الحر الفاعل الأساسي على أرض المعركة إضافة إلى لجان التنسيق – وهو ما أثبتته الأحداث فيما بعد – فقد مضوا في هذه الخطوة. ما أثار الشكوك فعلا نحو الأهداف الحقيقية وراء هذا القرار كما تطرح علامات استفهام كبيرة جدا حول الواقفين خلف الستار.
الآن وبعد كل هذه المدة وبعد تشكيل كيان آخر أكثر تمثيلية لأطياف واسعة من الشعب السوري والمتمثل في الإئتلاف الوطني السوري، والذي كان شرطا أساسيا لقوى الغرب ومعها بعض العرب من أجل تدفيق المساعدات على الشعب السوري – وإن كنا لم نر سوى ذر الرماد في العيون –عاد الغرب ومعه العرب من جديد للمطالبة بحكومة انتقالية، الهدف المعلن هو إيجاد المخاطب وكذا من يسهر على تسيير شؤون البلد الآن ومستقبلا، بيد أن من يقرأ بين السطور يجد أن الهدف الحقيقي غير ذلك، فما لم يستطع الغرب أن يفعله عن طريق بعض المعارضين، يحاول أن يعرفه بطريقة أخرى، وهو هنا يحاول أن يعرف كيف هو مزاج المعارضة ومن سوف يكون في دفة الحكم فيما بعد الأسد، وذلك حتى يحدد استراتيجياته المستقبلية على ضوء ذلك.
غير أن كل هذا يؤدي بنا إلى استنتاجات حتمية تفرضها ظروف الميدان والعركة:
1. العالم أجمع – ابتداء من روسيا وانتهاء بالغرب ومرورا بمجموعة من الأنظمة العربية – أيقن بما لا يدع مجالا للشك أن نظام الأسد أصبحت أيامه معدودة وأن بقاءه أصبح من المستحيل تماما.
2. الكلمة الأساس في الوضع الراهن للفاعلين الأساسيين على الأرض وهما الجيش السوري الحر بدرجة أولى ولجان التنسيق، وبالتالي أي قرار مهما كان ومن أي كان لا يمكنه أن يمر دون موافقتهما، والغرب مدرك لهذه الحقيقة تماما، وهما لا يسايران الغرب في أطروحاته بخصوص المنطقة لذا كان من الضروري إيجاد المنافس لهما في مرحلة ما بعد البعث الأسدي ودعمه.
3. شبح التقسيم الذي يلوح به البعض لا يخدم أهداف الغرب ومعه العدو الصهيوني أولا، على اعتبار أن بلدا مقسما يمكن أن ينتج لهم صومال ثانية وبالتالي صراعات طاحنة تؤدي بهم إلى بلد مفتوحة أمنيا ومرتع خصب للمجموعات المسلحة، وهذا يعني دخول الحدود الشمال الشرقية لـ”إسرائيل” إلى دائرة المناوشات وبالتالي انعدام الأمن الصهيوني على طول هذه الجبهة الجديدة، وهو الشبح الأساس الذي إلى الآن يؤرق ساسة الصهاينة والغرب على حد سواء، وهو العامل الأساسي الذي كان وراء ترك العنان لنظام البعث أن يفعل ما يشاء في شعب أعزل مسكين.
4. الحرب الطائفية غير واردة رغم كل ما يقال، ورغم ما يريد البعض أن يجر إليه سوريا – خاصة إيران وحزب الله من خلال دعمهما المطلق لنظام شيعي ولولا تشيعه لما كان له هذا الدعم الذي خسرا فيه مكانتهما عند الشعوب العربية – إذ إن حكمة المقاتلين على الأرض جعلت هذا الأمر في طي الماضي فقط، فالعدو الأول والاستراتيجي عندهم هو النظام سواء أكان أتباعه سنيين أو علويين أو نصارى أو آشوريين أو أكراد أو أيا كانوا.
في الختام لابد لنا أن نشير إلى أن الأمور حسمت بالفعل على الأرض، وحينما تحسم الأمور على الأرض يبقى للسياسة أن تتعامل مع الأمر الواقع فقط.