يلعب الاستقرار الأسري دورا هاما في تربية النشء، فمتى وجدت الأجيال طمأنينة وسكينة في البيت، استطاعت اقتحام عقبات الحياة، وساهمت في صناعة مستقبل الأمة، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال زوجين مؤهلين للاحتضان والتربية؛ بالأبوة الصادقة الناجحة، والأمومة الحانية البانية. فعماد الأمة القوية الأسرة القوية بتماسكها وتراحمها، ولن يتحقق هذا الأمر إلا بفضل الحوار المشترك البناء والدائم داخل برج الأسرة الاستراتيجي، حوار يشكل خط دفاع لكل ما من شأنه أن يفسد فطرة التربية السليمة، وأن يسهم في استمرار الجنس البشري بعيدا عن الغثائية المهزومة. فكيف يسهم الحوار في الحفاظ على تماسك الأسرة واستقرارها؟
مفهوم الحوار وأهميته
قال ابن منظور عن مفهوم الحوار “أحار عليه جوابه: رده، وأحرت له جوابا وما أحار بكلمة. والمحاورة: المجاوبة، والتحاور: التجاوب، وهم يتحاورون أي يتراجعون الكلام، والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، وقد حاوره، والمحورة والمحاورة، مصدر كالمشورة من المشاورة” (1).
فهو بهذا المفهوم اللغوي يدل على المخاطبة والتجاوب من خلال الكلام، ومنه تظهر أهميته، إذ لا يخلو بيت من لزوم المحاورة والمشاورة. ولضرورته في بناء العلاقات الإنسانية، ذكره القرآن الكريم في أكثر من موضع، نذكر منها قوله تعالى: “قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ في زَوْجِها وَتَشْتَكي إِلَى اللهِ واللهُ يَسْمَعُ تَحاوُركُما إِنَّ اللهَ سَمِيع بَصِيرٌ” (المجادلة، 1)، فلولا ذاك الحوار الذي دار بين المشتكية والرسول صلى الله عليه وسلم لما تحققت الغاية من هذه الآية. “كما وقع الإجماع عليه من كل الأجناس والمذاهب المختلفة، حتى عادت هذه الآلية الحوارية لا تفارق الإنسان في بيته، أو في عمله، أو وقت استراحته، أو مع نفسه” (2).
أسس الحوار الأسري الناجح
تبنى البيوت على الحب والاحترام والتفاهم، والاختلاف وارد في العلاقات الأسرية والإنسانية عموما، ولكي لا يتطور إلى صدام وصراع، لابد من استحضار مجموعة من الأسس أثناء الحوار الأسري، ومنها:
– حسن النية
وهي أولى قواعد الحوار، فالنية الصالحة روح الحوار، وبها يصلح كل العمل، “فلا مكان للمحاور غير الصادق، ولا مكان للمحاور الذي يريد إلزام خصمه وإفحامه أو تضليله فلا جدوى من المحاورة في هذه الحالة” (3)، وفي هذا الباب يقول الحق سبحانه وتعالى: إِنْ يُريدا إصلاحا يوفق الله بينهما (النساء، 35)، فلا توفيق ولا سداد إلا إذا خلصت النية وصدقت الإرادة.
– حسن الخلق
يلعب حسن الخلق دورا هاما في نجاح الحوار داخل الأسرة، لذا يجب على جميع الأطراف الالتزام بمجموعة من الآداب، كعدم رفع الصوت، والتواضع وقبول الحق، وتجنب الجدال بالباطل، والتكبر، وتجنب تحقير المحاور أو السخرية منه، “أما إذا ظهر سوء الأدب من أحد المتحاورين بسخرية أو رفع الصوت أو ضجر وحدة أو قدح في الشخص، إلى غير ذلك من أنواع الإيذاء، فيكون هذا السلوك حاجزا بينهما، ومفسدة للحوار” (4).
– الانطلاق من المتفق عليه
يستحسن بدء الحوار من موضوع متفق عليه بين المتحاورين، ليكون مشتركا، فكلما كانت نقط المناقشة مشتركة إلا وساعد ذلك في تقريب وجهات النظر، لأن الحوار إذا انطلق مما ليس فيه اشتراك واتفاق، ربما يكون مانعا من الوصول إلى التفاهم والانسجام.
– معرفة الخصوصية
تعد معرفة خصوصية وطبيعة الأطراف المتحاورة من أهم عناصر نجاح الحوار، فللمرأة خصوصية ميزها الله تعالى بها عن الرجل الذي له طبيعة مخالفة. “إن اختلاف نفسية المرأة، وغلبة العاطفة عليها إن غلب على الرجل المنطق العقلي، مزية وتكامل، لايصح أن نُنَقِّصَها لمكان تركيبتها النفسية إلا إذا صح أن نلومها على اختلاف تركيبها الجسمي، اعوجاجها الضِّلَعي هو استقامتها، هو انحناء معنوي وحنو، هو عاطفة ورحمة” (5)، هذا الفهم المزدوج من كلا الطرفين، يسهم في تجاوز الخلافات، ويخلق نوعا من التكامل وإمكانية حياة منسجمة، على نمط غير النمط الصراعي بين الرجل والمرأة في ظل استقرار أسري ناجح.
ثمار الحوار
مما لاشك فيه، أن سيادة منطق الحوار والتشارك العائلي، في القضايا الخاصة والعامة، يعود بنتائج إيجابية على الفرد والأسرة، ويمكن جرد بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
– تعزيز ثقافة الانفتاح العائلي، حيث يعتاد الأولاد على البوح والحديث الحر المنفتح مع الأبوين، ويحمل الأبناء معهم ثقافة الحوار إلى بيت المستقبل.
– الإسهام في تربية الأطفال تربية سليمة خالية من الأمراض والعقد النفسية.
– التخفيف من المشاكل الأسرية، ومن حدتها التي قد تسبب فشلا في العلاقات الزوجية.
– إشاعة مشاعر المحبة والمودة بين أفراد الأسرة.
إن الاستقرار في المجتمع رهين بالاستقرار الأسري، والاستقرار الأسري ليس مجرد حقوق وواجبات، وعقود والتزامات، بل هو مزيج من العطاء المتبادل بين جميع أفراد الأسرة، ولن يحصل هذا إلا من خلال تعزيز آلية الحوار الناجح الذي يبث روح السكينة والطمأنينة والهدوء داخل البيت.
ويبقى السؤال المطروح، إلى أي حد استطاعت بيوتنا أن تتبنى أسلوب الحوار كآلية من آليات الاستقرار؟
المصادر:
(1) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط1، دون تاريخ، مادة “حور” 218/4.
(2) خطوف، عبد الرحيم، آليات تدبير الاختلاف في الفكر الإسلامي المعاصر، منشورات الزمن، العدد 64، 2015، ص: 87.
(3) خطوف، عبد الرحيم، آليات تدبير الاختلاف في الفكر الإسلامي المعاصر، مرجع سابق، ص: 114.
(4) نفسه، ص: 115.
(5) ياسين، عبد السلام، تنوير المومنات، دار البشير، مصر، 1996، 174/2.
لائحة المراجع المعتمدة:
– لسان العرب، محمد بن مكرم بن علي جمال الدين ابن منظور، دار صادر، بيروت، ط1، دون تاريخ.
– آليات تدبير الاختلاف في الفكر الإسلامي المعاصر، عبد الرحيم خطوف، منشورات الزمن، العدد 64، 2015.
– تنوير المومنات، عبد السلام ياسين، دار البشير، مصر، 1996.