بقلم: محمد مستقيم
أهمية الصلاة في حياة المسلم
فرض الله الصلاة على رسوله ليلة أسري به إلى سدرة المنتهى، وهي العبادة التي فرضت بدون وساطة الوحي، ولا زالت الآيات والأحاديث النبوية تأمر بها وتحث على الالتزام بها وتشدد على مضيّعها والمتهاون بها، ومن ذلك قول الله تعالى: قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ 1، وقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ 2، وقال سبحانه وتعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا 3.
وفي الحديث أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد” 4، وعنه صلى الله عليه وسلم قال في تاركها أو المتهاون بها: “العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ” 5.
ولعظم أمر الصلاة، فقد أُمر المصلون بتعظيمها والعناية بها وحسن أدائها، وما يقتضيه ذلك من تفقه في أركانها، والتحلي بآدابها وما يقتضيه ذلك من أوصاف التبتل والخشوع فيها بين يدي رب العالمين.
فما هو الخشوع في الصلاة؟ وما أثره على المصلين؟ وما السبيل إلى الاتصاف به؟ وكيف كان خشوع السلف الصالح في صلواتهم؟
معاني الخشوع
جاءت كلمة الخشوع في آيات كثيرة من القرآن الكريم، وفيها قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (المؤمنون)، وقال سبحانه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ. الزمر[23]، فجاء الخشوع بمعنى السكينة والخوف والخضوع والتضرع والانكسار والافتقار والرضى الذي يحل بقلب المؤمن بين يدي ربه العزيز الجبار.
آثار الخشوع
ولا يخفى على مجرب ما لأثر الخشوع في الصلاة من الشعور بحلاوة الإيمان في القلوب واطمئنانها، قال الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وبه تحصل الاستكانة في القلب وتسري في الجوارح وتظهر الاستقامة في السلوك والأعمال، قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ 6.
كما أنه يُورّث الخوف والرهبة من الله تعالى، وهو سببٌ لقبول الصلاة وباقي الأعمال عند الله تعالى، وسمةُ الإيمان والورع والصلاح وطهارة القلب وسلامته، وسبب للكفارة من الذنوب ودفع العقوبة والعذاب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ فيُحْسِنُ وُضُوءَها وخُشُوعَها ورُكُوعَها، إلَّا كانَتْ كَفَّارَةً لِما قَبْلَها مِنَ الذُّنُوبِ ما لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وذلكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ) 7.
مظاهر الخشوع في الصلاة
– يحتاج المصلي في خشوعه إلى تهيئ نفسه قبل الشروع في الصلاة، فبعد إسباغ وضوئه، وهو شرط لازم وضروري لقبول العمل، يتوجه العبد بالدعاء إلى ربه وهو متوجه إلى المسجد أن يجعل في قلبه وجوارحه وفي كل كيانه نورا، وليلتمس من أعمال البر والخير ما يهئ به فؤاده للقاء ربه في صلاته من صدقة أو مد يد عون أو كلمة طيبة ناصحة ناهية عن منكر أو آمرة بمعروف، فإن استطاع التبكير إلى المسجد قبل الأذان فهو أفضل وأدعى للتخفف من هموم الدنيا وفتنها، فيلج المسجد بما يستحقه من أدب ووقار وسكينة، ويغتنم فيه وقته بنوافل الصلاة والذكر وقراءة القرآن والدعاء أو خدمة بيت الله وضيوفه.
– القيام للصلاة والوقوف بين يدي الله واستحضار عظمته بما يستحق تقديسه، وتدبر آيات القرآن ومعانيها والتفاعل معها، فقد روى الإمام أحمد في المسند عن حذيفة رضي الله عنه قال: “صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى. قال: وما مر بآية رحمة إلا وقف عندها فسأل، ولا آية عذاب إلا تعوذ منها”. رواه مسلم.
– وضع اليمنى على اليسرى وحني الظهر، لما له من إظهار الذل والانكسار، فقد روي عن الإمام أحمد – رحمه الله- أنه سئل عن ذلك فقال: “هو ذل بين يدي عزيز”.
– السكينة وعدم الالتفات في الصلاة، فقد خرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يزال الله مقبلا على العبد ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه” 8. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: في قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ المؤمنون: 2- قال: “كانوا إذا قاموا في الصلاة أقبلوا على صلاتهم، وخفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم، وعلموا أن الله يُقبل عليهم، فلا يلتفتون يميناً ولا شمالاً”.
– الركوع من مظاهر الخشوع، لما يظهر من ذل ظاهر في انحناء الجسد، فيخضع القلب وباطن العبد وجوارحه لله، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الركوع: “خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظامي وما استقل به قدمي” 9.
– السجود لله، والسجود يأنف منه المتكبرون، وما طُرد إبليس من رحة الله إلا لامتناعه عن السجود لما أمره الله، ولهذا فالمومن إذا سجد سلم لمولاه وحده بصفات العز والكبرياء والعظمة، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: “أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ، فأكثروا الدعاء” 10، فبقدر التواضع والذل والتسليم لله، يحصل القرب من الله.
– شهود القلب مع البدن، والحضور بين يدي الله تعالى خوفا ومهابة وتعظيما وطمعا في قبول العمل، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي دَهْرَشٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: «يَا فُلَانُ، هَلْ أَسْقَطْتُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ شَيْئًا؟» قَالَ: لَا أَدْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَسَأَلَ آخَرَ فَقَالَ: لَا أَدْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هَلْ فِيكُمْ أُبَيٌّ؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “يَا أُبَيُّ، هَلْ أَسْقَطْتُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي شَيْءٍ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، آيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَا بَالُ أَقْوَامٍ يُتْلَى عَلَيْهِمْ كِتَابُ اللَّهِ فَلَا يَدْرُونَ مَا يُتْلَى مِنْهُ مِمَّا تُرِكَ؟ هَكَذَا خَرَجَتْ عَظَمَةُ اللَّهِ مِنْ قُلُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَشَهِدَتْ أَبْدَانُهُمْ وَغَابَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ عَمَلًا حَتَّى يَشْهَدَ بِقَلْبِهِ مَعَ بَدَنِهِ” 11.
– التأني في الصلاة، ويتمهَّل في أدائها، وأن يحقق الطمأنينة لكلَّ ركنٍ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العجلة في الصلاة، ووصف ذلك بالنفاق، فقال: “تِلكَ صَلَاةُ المُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حتَّى إذَا كَانَتْ بيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا” 12.
– ثم إن أهم الأمور المساعدة على الخشوع في الصلاة اختيار الصحبة الصالحة الدالة على الله تعالى، قال تعالى: اَلْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلْمُتَّقِينَ 13، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل” 14، فمصاحبة الأخيار تورث الصلاح في القلوب وطلب الكمال في الأعمال، وفي مخالطتهم يتعلم المومن أمور دينه وكل أعمال البر التي تقربه إلى ربه، وترقق قلبه، وبينهم يتشرب معاني الخشوع والانكسار والتذلل بين يدي خالقه وبارئه.
صفات السلف الصالح في الخشوع في الصلاة
كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة فكأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره، لا تحسبه إلا جذعاً أو حائطاً أو خشبة منصوبة لا تتحرك.
وكان مسلم بن يسار لا يلتفت في صلاته، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع لها أهل السوق فما التفت.
وكان إذا دخل منزله سكت أهل بيته، فإذا قام يصلي تكلموا، أو ضحكوا، علماً منهم بأن قلبه مشغول عنهم، وكان يقول: “إلهي، متى ألقاك وأنت راضٍ”.
وكان علي بن الحسين إذا فرغ من وضوئه للصلاة، وصار بين وضوئه وصلاته، أخذته رعدةٌ ونفضةٌ، فقيل له في ذلك، فقال: “ويحكم، أتدرون إلى من أقوم ومن أريد أن أناجي؟”.
ولما وقعت الأكلة في رجل عروة بن الزبير احتاج الأطباء إلى قطعها حتى لا ينتشر المرض في بقية جسده، فقالوا له: “ألا نسقيك مُرقداً حتى يذهب عقلك منه فلا تحسُّ بألم النشر؟”، فقال: “لا والله، ولكن إن كنتم لابد فاعلين فاقطعوها وأنا في الصلاة، فإني لا أحسُّ بذلك، ولا أشعر به”، فقام الأطباء بقطع رجله وهو يصلي فما تضوّر ولا صاح ولا اختلج.
غير أنه لا يحصل الخشوع بالبدن دون أن يغشى القلب، فقد كره الأولون التظاهر بالخشوع واعتبروه من الرياء والادعاء، فقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا طأطأ رقبته في الصلاة، فقال: “يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب”، ورأت عائشة رضي الله عنها شبابا يمشون ويتمارون في مشيتهم، فسألت عنهم: “من هؤلاء؟ فقالوا: نُسّاك، فقالت: كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقا”، وقال الفضيل بن عياض: “كان يُكره أن يُري الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه”.
فإذا كان هذا حال الخاشعين في صلاتهم لله، فلا أقل من اتباعهم ونهج سبيلهم والتشبه بهم، وإلا، فيبقى الدعاء لله بأن يرزق المصلين الخشوع في صلاتهم، ليتحقق فينا كلام الله ونكون من الذين أنعم عليهم بالهداية على الصراط المستقيم، حتى يقبل أعمالنا ويلقانا وهو راض عنا، آمين، والحمد لله رب العالمين.
[2] سورة البقرة، آية: 110.
[3] سورة مريم، آية: 59.
[4] رواه الترمذي، في سننه، 2616، حسن صحيح.
[5] رواه الترمذي، في سننه، 2621، حسن صحيح غريب.
[6] سورة العنكبوت، آية: 45.
[7] رواه مسلم، في صحيح مسلم، 228، صحيح.
[8] أخرجه أبو داود في سننه(909) والنسائي في المجتبى (3/8).
[9] أخرجه مسلم في صحيحه (771).
[10] أخرجه مسلم في صحيحه (482).
[11] أخرجه محمد بن نصر في كتابه [تعظيم قدر الصلاة 1/198].
[12] رواه مسلم، في صحيحه (622).
[13] الزخرف. (67).
[14] رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والبيهقي.