مقدمة
ما من شيء يقربنا إلى ربنا أفضل من الصلاة، قال سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في الحديث القدسي: “مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضتُ عليه..” (رواه البخاري).
والصلاة هي الركن الأساس المفروض علينا، وقد وجب فرضها العروج بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى لتفرض من فوق سبع سماوات، فما أجمله من تكريم لهذه الأمة، وهذا ما فقهه الصحابة رضوان الله عليهم فعرفوا مكانتها وفضلها حتى كانت قرة أعينهم في الصلاة كما كانت لنبيهم صلوات الله عليه، ولنا فيهم الأسوة الحسنة.
عن عقيل بن جابر عن جابر قال: “خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني في غزوة -.. فنزل النبي صلى الله عليه وسلم منزلا فقال: “من رجل يكلؤنا؟” فانتدب رجلا من المهاجرين ورجلا من الأنصار فقال: “كونا بفم الشعب”، قال: فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجري وقام الأنصاري يصلي، وأتى رجل من المشركين فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم فرماه بسهم فوضعه فيه فنزعه حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع وسجد ثم انتبه صاحبه فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدم قال: سبحان الله ألا أنبهتني أول ما رمى؟ قال: “كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها” (رواه أبو داود).
نستنتج أن الصحابي كان يتلذذ بالقراءة والصلاة فلم يرد أن يقطع تلك اللذة حتى بعد إصابته بثلاثة أسهم، فالصلاة أحلى عبادة في الدنيا لمن يعيش معانيها، فما إن تسلم وتنتهي منها حتى تشعر براحة وأنك قد ارتويت بالفعل.
هذا هو الايمان الحقيقي الذي أثنى عليه الله عز وجل في كتابه العزيز، وأعد لصاحبه المقامات العليا عنده عز وجل، وهو ما جاء في أوائل سورة “المؤمنون”، فلنقف وقفة تدبر مع هذه الآيات ونجدد النية لنكون منهم بإذن الله عز وجل.
تفسير أوائل سورة “المؤمنون”
بسم الله الرحمن الرحيم
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (1 – 11).
“قد أفلح المومنون”: أي فازوا بكل مطلوب. الفلاح: الفوز بالمرام والنجاة من المكاره والآلام، وقيل: البقاء في الخير إلى الأبد. قال صلى الله عليه وسلم: “لما خلق الله الجنة قال لها تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون –ثلاثا- أنا حرام على كل بخيل مرائي”، لأنه بالرياء أبطل العبادات الدينية.
ثم وصف أهل الإيمان بست صفات:
“الذين هم في صلاتهم خاشعون”: خاضعون بالقلب، ساكنون بالجوارح.
“والذين هم عن اللغو معرضون”: اللغو كل كلام ساقط حقه أن يلغى؛ كالكذب والشتم ونحوهما (اللغو كل ما لا يعني من الأقوال والأفعال).
“والذين هم للزكاة فاعلون”: مؤدون (بلغوا الغاية القصوى من القيام بالطاعة البدنية والمالية وتوسط اللغو بينهما)، لأنه من لزم الصمت والاشتغال بما يعني عظم خشوعه وأنسه بالله.
“والذين هم لفروجهم حافظون”: ممسكون لها عن الحرام.
“إلا على أزواجهم أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فإنهم غير ملومين”: لا حرج في ذلك.
“فمن ابتغى وراء ذلك”: طلب قضاء شهوته في غير هذين.
“فأولئك هم العادون”: الكاملون في العدوان.
“والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون”: على ما يؤتمنون.
“والذين هم على صلواتهم يحافظون”: الصلاة المفروضة يداومون عليها في أوقاتها، وأعاد الصلاة لأهميتها.
“أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون”: أعلى الجنان، استحقوها بأعمالهم.
من خلال هذه الآيات يوضح لنا الله عز وجل أنه علينا تخلية القلب قبل تحليته: تخليته من اللغو والزنا -زنا النظر، زنا السمع، وزنا الفرج أكبرهم- ومن ثم تحليته بالخشوع. ابتدأت الآيات بالخشوع في الصلاة وانتهت بالحفاظ عليها والجزاء العظيم لصاحبهما، وما بينهما صفات يجب التخلي عنها ليثمر الخشوع في الصلاة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، ربعها، ثلثها، نصفها” (رواه أبو داود). قال ابن عباس رضي الله عنه: “ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها”.
وإذا كان الخشوع لب الصلاة ومعراج في مقامات القرب من الله عز وجل فكيف السبيل إليه؟
الخشوع في الصلاة
المعرفة مفتاح القرب من الله عز وجل، لأخشع لابد لي أن أفهم المقصود من كل عبادة من عباداتي لأستشعر عظمة الله عز وجل فيتحقق لي الخشوع.
الاستعداد للخشوع في الصلاة يبدأ من الأذان؛ فمن ارتبط بالأذان قبل الصلاة زاد خشوعه فيها (لأن الأذان يطرد الشيطان).
الأذان فرصة لمضاعفة أجر صلاتك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (.. والمؤذن يغفر له مد صوته ويصدقه من سمعه من رطب ويابس وله مثل أجر من صلى معه)، وهذا الأجر ليس للمؤذن فقط.
يقول صلى الله عليه وسلم: “قُلْ كما يقولونَ، فإذا انتهَيتَ فسَلْ تُعْطَه” عندما سئل صلى الله عليه وسلم “إنَّ المؤَذِّنينَ يَفضُلونَنا بأذانِهم” (رواه أبو داود).
معانى ألفاظ الأذان:
الله أكبر: أكبر من أهلك وولدك، أكبر من فراشك، من لعبك، من المسلسلات..
أشهد أن لا إله إلا الله: إن توحيدك لله عز وجل هو الذي يدفعك لترك الملذات لكي تلبي النداء. يقول صلى الله عليه وسلم: “تَعِسَ عَبْدُ الدينار، تَعِسَ عَبْدُ الدرهم، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَة، تعس عَبْدُ الخَمِيلَة، إن أُعْطِيَ رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انتَقَشَ” (رواه البخاري).
أشهد أن محمدا رسول الله: الأذان يذكرنا بشرطي القبول:
1- الإخلاص لله عز وجل (أشهد أن لا إله إلا الله).
2- المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. فلا بد من أداء الصلاة كما كان يؤديها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
حي على الصلاة: نقول لا حول ولا قوة إلا بالله، نستعين بحول الله وقوته، فنحن لن نصلي ونخشع إلا إذا أعاننا الله تعالى.
حي على الفلاح: الصلاة فلاحنا ونجاحنا.
ثم يختم الأذان بمثل ما بدء به، بالدعوة إلى ترك الدنيا والإقبال على الآخرة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه” (متفق عليه). فنحن على موعد كل يوم مع ملك الملوك رب السماوات والأرض وما بينهما، فما أجمله من لقاء.
أسرار الوضوء:
– النية: كلما زادت نواياك زاد أجرك. يقول عبد الله بن المبارك: “كم من عمل قليل عظمته النية، وكم من عمل عظيم حقرته النية”.
ومن نوايا الوضوء التي يجب أن نستشعرها:
1- استباحة الصلاة: هذه هي التي يكتفي بها كل الناس (الفرض).
2- امتثال لأمر الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (المائدة، 6).
3- اتباع أمر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
4- تكفير السيئات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيُّما رَجُلٍ قامَ إلى وُضوئِه يُريدُ الصَّلاةَ، ثم غَسَلَ كَفَّيْه، نَزَلتْ كُلُّ خَطيئةٍ مِن كَفَّيْه مع أوَّلِ قَطرةٍ، فإذا مَضمَضَ واستَنشَقَ واستَنثَرَ، نَزَلتْ خَطيئَتُه مِن لِسانِه وشَفَتَيْه مع أوَّلِ قَطرةٍ، فإذا غَسَلَ وَجهَه نَزَلتْ كُلُّ خَطيئةٍ مع سَمْعِه وبَصَرِه مع أوَّلِ قَطرةٍ، فإذا غَسَلَ يَدَيْه إلى المِرفَقَيْنِ ورِجلَيْه إلى الكَعبَيْنِ سَلِمَ مِن كُلِّ ذَنبٍ كَهَيئَتِه يَومَ وَلَدتْه أُمُّه. قال: فإذا قامَ إلى الصَّلاةِ رَفَعَ اللهُ دَرَجَتَه، وإنْ قَعَدَ قَعَدَ سالِمًا” (صحيح الجامع، 2724).
والنية محلها القلب ولا تكون باللسان فقط.
ثم الدعاء بعد الوضوء.
إن الوضوء هو مقدمة الدخول على الله عز وجل، حيث يطهر ظاهرك بالماء ولكن يبقى عليك أن تطهر باطنك كي تستعد للقاء ملك الملوك.
التزين للصلاة:
نتزين للقاء الله كما نتزين للمناسبات.
استقبال القبلة:
يقول ابن القيم: (فكيف تصح صلاة من لم يتوجه بقلبه إلى رب القبلة والبدن، بل وجه بدنه إلى البيت ووجه قلبه إلى غير رب البيت).
يجب علينا تجديد النية في صلاتنا؛ لا نؤديها لإسقاط الفرض ولكن لنرتاح ونتزود ونتقرب من ربنا عز وجل.
الدخول في الصلاة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن أحدكم إذا قام يصلي فإنه يناجي ربه، فلينظر كيف يناجيه”.
- الله أكبر
الله أكبر من كل شيء؛ من الهموم والديون والأعداء، الله أكبر من كل شيء لأنه رب كل شيء؛ بيده حياتي وهمومي وانشغالاتي.. هو القادر على تفريج كل كرب وهم.
- دعاء الاستفتاح
(اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وبيْنَ خَطَايَايَ، كما بَاعَدْتَ بيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الخَطَايَا كما يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بالمَاءِ والثَّلْجِ والبَرَدِ).
الفاتحة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: “قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل” (رواه مسلم).
مفتاح الصلاة أن نناجي ربنا؛ نتكلم معه، نخاطبه عز وجل، ونتذلل له.
ثم قراءه سوره تستشعر معانيها.
الركوع:
شرع الله لنا بين كل حركة من حركات الصلاة التكبير لننتبه ونفيق من الشرود والغفلة فالله أكبر مما نفكر.
استواء الظهر في الركوع، الرأس في مستوى الظهر، نركع حتى يأخذ كل عضو مكانه، لا نتعجل.
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: “لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا”.
سبحان ربي العظيم: التسبيح معناه التنزيل، أي أبعد عن الله عز وجل كل ما لا ينبغي أن يوصف به.
سبوح قدوس رب الملائكة والروح: صيغه مبالغة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “فأما الركوع فعظموا فيه الرب”.
السجود:
يقول ابن القيم (وكان الركوع كالمقدمة بين يدي السجود والتوطئة له -أي التمهيد- فينتقل من خضوع إلى خضوع أكمل وأتم منه وأرفع شأنا).
السجود هو موضع الدعاء؛ حيث يكون العبد قريبا من ربه ويستجاب فيه لدعائه. عن أبي هريره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء” (صحيح ومسلم).
هنا تسكب العبرات، هنا أشكو همي وضعفي، كلما انكسرت رفعني الله إلى مقامات القرب منه. سبحان ربي الأعلى: ومن أنا في ملكوته ليقربني، ولكنه الكريم الحنان المنان، المعطي، والكريم إذا أعطى أدهش. اللهم ارزقنا لذة القرب منك.
يقول ابن القيم (السجود سر الصلاة وركنها الأعظم، فهو شبه طواف الزيارة في الحج).
التشهد: توحيد لله عز وجل.
السلام: هو تحلل من إحرام الصلاة، فكأننا كنا في حج.
الخلاصة
السعادة لا تنال إلا عند اقتراب الروح من خالقها عز وجل، وكلما ارتفعت الروح واقتربت أكثر من الملك سبحانه وتعالى كانت أسعد.