الحمد لله الذي بلطفه تصلح الأعمال، وبإرادته تتغير الأحوال، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعزمن يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، تبارك الله أحسن الخالقين. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه وحزبه.
سمى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الدولة الأولى بعد النبوة بالخلافة على منهاج النبوة، ووصف خلفاءها بالراشدين المهديين، وأوصى بالاستمساك بسنتهم والعض عليها بالنواجذ، قال صلى الله عليه وسلم:” قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ”.(1)
وقد اكتسبت الخلافة الأولى صفة الرشد لأنها كانت على منهاج النبوة. كما تواضع العلماء والمؤرخون على تسميتها بالخلافة الراشدة، تمييزا لها عن غيرها من الدول. ودامت مدتها ثلاثين سنة. وقد أسس الخلفاء الراشدون عمرانا إسلاميا اتبعوه في أحوالهم الروحية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية.
الخلافة في اللغة تأتي بمعنى النيابة عن الغير، والآتي بعد من مضى، والتابع، وتأتي بمعنى البدل. ويقال في الفعل: خلفه في قومه وفي أهله يخلفه خلفا وخلافة. والفاعل منه خليف وخليفة، والجمع خلفاء وخلائف، وهو في الأصل مصدر سمي به من يكون خليفة.(2) والخليفة من يخلف غيره ويقوم مقامه. قال موسى لأخيه عليهما السلام:” اخلفني في قومي، وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين” (الأعراف:142). وقال تعالى: “وهو الذي جعلكم خلائف الأرض” (الأنعام:165). وقال: “ويستخلف ربي قوما غيركم” (هود:5) وقال الفراء: جعل أمة محمد خلائف كل الأمم. والخالفة الأمة الباقية بعد الأمة السالفة، لأنها بدل ممن قبلها. والخلف الولد يبقى بعد الإنسان. والخلف القرن يأتي بعد القرن. وفي التنزيل العزيز: “فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات” (مريم: 59)، والخلف يكون في الخير والشر. واستخلف فلانا من فلان جعله مكانه، واستخلفه جعله خليفة. والخلافة: الإمارة.(3)
فإذا كانت الخلافة نيابة الغير، فالخلافة في الإسلام نيابة عن من؟ هل هي نيابة عن الله عز وجل لقوله تعالى للملائكة: “إني جاعل في الأرض خليفة” (البقرة:30)؟ أم نيابة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، سمي بخليفة رسول الله ؟ ومن منحه هذه النيابة وفوض له؟ أم هي نيابة عن جماعة المسلمين في تسيير أمر المسلمين وإدارة الشأن العام، لأن الاستخلاف استخلاف جماعي أناطه الله بالأمة، وهو تكليف كفائي، تختار الأمة المستخلفة من ينوب عنها فيه، لقوله تعالى: “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا. يعبدونني لا يشركون بي شيئا”(النور: 55)؟ وأي نوع من أنواع الأنظمة هي؟ وما خصائص الخلافة على منهاج النبوة؟ وما مميزاتها؟
خلفاء الله في الأرض من هم؟ في سورة البقرة حوار بين الله عز وجل والملائكة حول مسألة الخلافة، واستخلاف الله لآدم وتكليفه بعمارة الأرض وإقامة الحق والعدل فيها. وقد ذهبت الملائكة إلى أن هذا الذي سوف يستخلف قد لا يحقق ما هو من مسؤوليته، بل يقوم بشيء آخر على النقيض من ذلك تماما وهو الإفساد في الأرض وسفك الدماء. ثم بين الله سبحانه لملائكته أنه يعلم ما لا يعلمون، وأن له في ذلك حكة، وأنه علم آدم أسماء ومعارف لا يعلمونها، ثم أمرهم بالسجود له، إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.
وفي سورة ص، يقص الله علينا قصة الملكين مع نبي الله داود، عليه السلام، يقول الله تعالى: “وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب، إذ دخلوا على داود ففزع منهم، قالوا: لا تخف. خصمان بغى بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط، واهدنا إلى سواء الصراط”. إلى أن قال تعالى: “يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب”(سورة ص: 21- 26).
فهل كل من تولى الإمارة والسلطة وتدبير الشأن العام يسمى كذلك خليفة الله؟ وهل نظام الخلافة نظام “ثيوقراطي”؟
أطرح مثل هذه الأسئلة لأن من ملوك المسلمين العاضين والجبريين، الطغاة المستبدين، مـن ادعى صراحة أو تلميحا أنه خليفة الله وخليفة رسوله، وجعل نفسه مقدسا، ومنهم من جعل ذلك مادة دستورية، تنص على أن الحاكم الأعلى شخص مقدس لا يسأل عما يفعل.
مع الدولة الأموية بدأت نغمة “التفويض الإلهي” في الظهور والتبلور، وباستيلاءهم على الحكم وتحويل الخلافة إلى ملك عضوض ادعوا أن الله اختارهم للخلافة وآتاهم الملك، وأنهم يحكمون بإرادته، وأحاطوا طغيانهم بهالة من القداسة، وأشاعوا مذهب الجبر. وكان زياد بن أبيه أول من بشر بهذا المذهب، قال في خطبته “البتراء”: “أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوله لنا”.(4) ولما تولى عبد الملك بن مروان الملك أشاع أنه “خليفة الله”، و”أمين الله”، ما على الناس إلا الطاعة والاستسلام.(5)
وقد تبارى كثير من الشعراء في “مدح نظرية التفويض الإلهي”، يقول الفرزدق مثلا لعبد الملك بن مروان: فالأرض للـه ولاها خـليفـته
وصاحـب الله فيها غـير مـغلوب
فأصبح الله ولى الأمر خيـرهم
بعد اختلاف وصدع غير مشعوب(6) وترسخت هذه النظرية وتوطدت مع العباسيين، حتى قال المنصور صراحة: “أنا خليفة الله!” وقال المهتدي بالله العباسي: “أنا خليفة الله في أرضه والقائم مقام رسول الله، النائب عنه في أمته”.(7)
وارتفعت هذه النظرية إلى درجة التأليه مع الفاطميين. فلا يجد ابن هانئ الأندلسي غضاضة في أن يقول للطاغية الفاطمي الملقب بـ”المعز لدين الله”: ما شئت لا ما شــاءت الأقدار
* فاحكم فأنت الواحد القهــار
وكأنـما أنت النـبي مـحمـد
* وكأنما أنصارك الأنصار!!(8) وهذا ما أوصلنا في العصر الحديث إلى الزعيم الأوحد، والحاكم المقدس، ونشأت بين المسلمين زاعمات فوق الشرع، وفوق الأمة، وفوق المؤسسات، تعلو على المحاسبة والمراقبة، بل من يجرؤ على الكلام يكون مآله الخلود في دهاليز المعتقلات. وهكذا تدثر الطاغية المستبد برداء الدين، بل افترى على الله ورسوله، ليمارس طغيانه، يأمر وينهى بلا حسيب ولا رقيب، ومنهم من كان يتساءل هل يحاسب الحاكم يوم القيامة؟ ومنهم من جمع فقهاء السلطان وأفتوه بأن لا حساب على الأمير يوم الحساب. وإذا كان لا يحاسب في الآخرة فكيف يحاسب في الدنيا!!
فكرة “التفويض الإلهي” لها جذور يهودية فـ”إسرائيل يحكمها الرب بصورة مباشرة”، كما جاء في سفر التثنية، وأخذها الفكر المسيحي من اليهود، فالملك يستمد سلطته من الله مباشرة، قال ملك انجلترا جيمس الأول: “إننا نحن الملوك نجلس على عرش الله على الأرض”. وأخذها الملوك الأمويون والعباسيون وغيرهم من الفكر الروماني المسيحي في بلاد الشام، والفارسي في بلاد إيران، وغير ذلك من المؤثرات التي وجد فيها المستبدون ما يدعم سلطانهم ويثبته، وروجوا لفكرة أن “السلطان ظل الله في الأرض”، واختلقوا لها الأحاديث.
هذا، ودفعا لكل لبس فنحن نتحدث عن الخلافة على منهاج النبوة، التي أخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، في حديث سفينة الصحيح أن مدتها 30 سنة، ثم يكون بعدها الملك العضوض، الذي بدأ مع الدولة الأموية وانتهى مع الدولة العثمانية، ليأتي بعده الملك الجبري الذي بدأ مع المرحلة الاستعمارية.(9) هذه الدول سميت زورا “بالخلافة” فانطلت الكذبة على الأجيال.
فالطغاة من ملوك وسلاطين العاض هم من سموا أنفسهم خلفاء الله وظل الله في الأرض، وغير ذلك من الأباطيل والترهات التي روجها المستبدون لإدامة تسلطهم واستبدادهم. والخلفاء الراشدون المهديـون لم يدع منهم أحد أنه خليفة الله ولا أنه يحكم بتفويض منه.
والذين جعلهم الله خلفاء له في الأرض هم الأنبياء المعصومون، الذين أوحى إليهم بشريعة من الأمر يتعبدون بها في أنفسهم إن كانوا أنبياء، ويبلغونها للناس ويقيمونها بينهم إن كانوا أنبياء رسلا. والنبي الرسول يصطفيه الله ويختاره، ويوحي إليه، ويجعل له معجزات دليلا وحجة على أنه رسول الله وخليفته في أرضه، وقد انقطع الوحي والرسالة بخاتم الرسل محمد بن عبد الله، عليه الصلاة والسلام، فلا مجال لأن يدعي مدع أنه خليفة الله.
خلفاء الرسول أم خلفاء الأمة؟ إن الله عز وجل لم يستخلف الأنبياء فقط، بل استخلف عموم المؤمنين والمؤمنات من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قال تعالى: “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم”. وهذا استخلاف قدري وتمكين للذين آمنوا وعملوا الصالحات ونصر لهم، لا استخلاف تشريعي. وقال: “ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات، وما كانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين، ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم، لننظر كيف تعملون…”( يونس: 13-14). فالخلافة في الأمة المحمدية أناطها الله بعموم جمهور المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات. ومسألة الاستخلاف لم تكن مقتصرة على الله وحده، فقد جاء في القرآن الكريم أن موسى، عليه السلام، استخلف أخاه هارون وأنابه عنه في المسؤوليات التي كان يقوم بها ويتولاها، قال الله تعالى في سورة الأعراف: “وقال موسى لأخيه هارون: اخلفني في قومي، وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين”. (الأعراف:142).
والسؤال الذي يطرح هنا هل النبي صلى الله عليه وسلم، عين من ينوب عنه من بعد موته واختار خليفته من بعده كما اختار موسى أخاه؟ أم أنه لم يفعل؟ وكيف نشأ نظام الخلافة الأولى؟
ليس للأنبياء حق استخلاف غيرهم إلا بإذن من الله تعالى، بحيث هو الذي يصطفي من يشاء من عباده، ويوحي إليه ويبعثه إلى الناس. فلم يثبت شيء من استخلاف النبي، صلى الله عليه وسلم، لأحد من بعده، ولم يرد نص في كتاب الله ولا سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، صريح في تعيين أحد لمنصب الخليفة. ووقائع الخلافة الأولى دليل قاطع على ذلك. والذي ثبت تاريخا أن الناس هم الذين اختاروا أبا بكر خليفة بعد حوار وجدال حول الأحقية بالأمر بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في سقيفة بني ساعدة.
وأمر تعيين الخلفاء لم يرد فيه نص سوى نصوص الاستخلاف الجماعي التي سبق ذكرها ونصوص الشورى والأمر بها، مثل قوله تعالى: “وأمرهم شورى بينهم”. والأمور التي لم يرد فيها نص تخضع للاجتهاد ولاستنباط المجتهدين، قال تعالى: “فإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم”. (النساء: 83) وبعد وفاة الرسول أصبح الاستنباط من اختصاص أولي الأمر أهل الدراية والاجتهاد.
إن الوقائع التي وقعت في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم أجمعين، كلها تدل على أن أمر اختيار الخليفة ليس أمرا دينيا، بمعنى أنه لم يرد فيه نص من الوحي ولا تعيين مباشر من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بل أمر “مدني” يخضع للشورى والاختيار ورضا المسلمين، أي لم يكن التعيين على أساس ورود نص قرآني أو نبوي فيمن يتولى الخلافة، بل كان أمرا اجتهاديا يرى الناس من هو لها أهل وأكفأ وأصلح وأتقى. ولو كان هناك نص لما احتاج الأمر إلى ذاك الحوار الساخن في سقيفة بني ساعدة، لأن الصحابة هم أحرص الناس على العمل بالنص، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعدم وجود النص هو أمر تشريعي، فرسول الله قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، والدين اكتمل، والله سبحانه وتعالى ترك لعباده حرية الاجتهاد في تولية أمر المسلمين وتدبير الشأن العام، وإخضاع ذلك لظروف الزمان والمكان، بشرط احترام القيم والمبادئ والتشريعات التي جاء بها الكتاب أو جاءت بها السنة، ومن ذلك الالتزام بالشورى، لقوله تعالى: “وأمرهم شورى بنهم”.
لقد قدم كل من المهاجرين والأنصار في السقيفة من الحجج ما يدلل على أنه الأحق بالخلافة، ودارت هذه الحجج حول الدور الذي لعبه كل طرف في حماية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونصرة الإسلام، والسبق في الدخول فيه، وأن المصلحة العامة تقتضي أن تكون الخلافة في قريش، لأن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا فيهم، فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم، وغير ذلك من الحجج التي توضح تحيز كل فريق لنفسه.-يتبع-
الهوامش:
(1) رواه الإمام أحمد في المسند، وابن ماجة في سننه، والهيثمي في الزوائد، والحاكم في المستدرك.
(2) محمد بن منظور، لسان العرب، ج 9. ص89، دار صادر، بيروت، ط1.
(3) محمد بن منظور، ج9، ص 84- 85.
(4) العقد الفريد، ابن عبد ربه، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987. ج4، ص 119. 201.
(5) الديموقراطية في فلسفة الحكم العربي” عبد العزيز الدوي، في كتاب ” الديموقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي”، ص195. مركز دراسة الوحدة العربية، بيروت، 1986.
(6) مروج الذهب، المسعودي،المكتبة الإسلامية بيروت.ج3. ص 76. والبداية والنهاية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985. ج9،75.
(7) شذرات الذهب، ج1، ص 133.
(8) د. حسين عطوان، الأمويون والخلافة، دار الجيل، 1986. ص30- 47.
(9) سأعود للتدقيق والتحقيق والتأريخ لهذه المفاهيم في مقالات لاحقة، إن شاء الله تعالى.