إن أهم ما يجعل الأطفال ينجذبون للقصص هوما تنطوي عليه من خيال مدهـش وعجائب مثيـرة، تضفي الجمال والمتعة على الأحداث، وتُلبي حاجاتهـم النفسية والمعرفية، وتطوف بهـم في عوالم بديعة تبهـرهم، فيعشقون ألوانها المتميزة والممتدة بلا حدود. والمقـدرة على التخيُّل تعـدُّ مـن أهـم سماتهم. فمـن استطاع إثارة خيال الطفل بما يهـوى ويحبّ من القصص، فإن باستطاعته إشباع الكثير من احتياجاته النفسية. فالخيال المحلق يشدُّه إليها ويحرِّك أحاسيسه، ويطير به وهو جالس في مكانه.
والخيال عـمل ذهني يتصل بالتفكير والتفكر والتذكر والإدراك. ويستفيد من الرصيد المعرفي المتنوع للفرد صغيرا كان أم كبيرا. وبفعل التكرار تجد الصور القصصية الخيالية منفذا إلى العقل الباطني فتنطبع فيه، وتنعكس نتائجه على السلوك والأفعال والعواطف. (وأي شيء تفكر فيه بشكـل متكرر أو اعتيادي فإنه يغرق في عـقـلك الباطـن الذي يُبـدع طبقا لطبـيعة أفكارك. إن عـقـلك الباطني يمـثـل مركـز العـواطف والانـفعـالات والإبداع) 1. ولذلك فإن الخيال القصصي يؤثر على عواطف الناشئة وانفعالاتهم وإبداعهم. وتكون نتيجته خيرا إذا كان الفكر بناء ومنسجما، وتكون شرا إذا كان هداما أو غير منسجـم 2.
ولا شك أن الخيال مورد أساسي للعقل. يقوم بتغذيته بالصور والأفكار بشكل مستمـر. غير أن عقل الطفل لا يفرق في هذا النوع الغذائي بين ما هـو صحي وما هـو غير صحي، أي بين ما هـو حـقيقي وما هـو غـيـر ذلك. فهـو لا يفـرق بين ما يرى بالعين أثناء القراءة وبيـن ما يراه بالمخيلة. فالدماغ يستقبل كل ذلك عـلى أنه حقيقة.
ومـن ثمة فإن الخيال القصصي أداة فعالة لبـرمجة الأطفال عـلى السلوك الإيجابي والقيـم المجتمعية. فهـو يساهم في تنمية المهارات والقيم ويرتقي بسلوك الناشئة للمساهمة في حل المشكلات وطرح البدائل والإبداع فـي الإنجاز. فعوض توجيههـم المباشر نحو المبادئ والقيم المجتمعية، يمكن فتحُ خيالهم على الوجهة السليمة، مـن منظـور المجـتمع، وذلك بتوظيـف القـصص المقـروءة أو المسموعة أو المرئية. والوجهـة السلـيمة مـن منظور المجتمع العـربي هـو كل ما يستجيب للقيـم التربـوية الإسلامية. (وهـذا مفيد في فـن التربية من خلال برمجة القيـم في عقـله اللاواعي. فأثنـاء خياله يدخـل في حالة استرخاء للوعي ونشاط لِلاَوَعْيِهِ، ممـا يسهـل عملية اختـراق القيـم الإيجابية لعقـل الطفـل بـلا قـوة انتقادية أو منطـق معـارض أو تـرقب للمواعـظ والنصائح المباشرة) 3.
ويختلف تأثير القصص على برمجة خيال الأطفال تبعا لاختلاف مواضيعها:
1- فقصص الخيال العلمي تسبح بالخيال في العالم اللامحدود، حيث يتم اختراق الزمان والمكان، والتحكم في المادة السائلة والصلبة والغازية. ويتم أحيانـا اخترق الأعراف والقيم، تبعـا لتصور الكاتب القصصي. والخيال العلمي يبرمج الأطفال على التفكير المتحـرر من كل القيود والنظر إلى الحياة بشكل مغاير، مُحتَمَلٍ وقوعُه أو بعيد احتمال الوقوع.
2- أما قصص الأساطير وعالـم الجن والحكايات الشعبية فتسبـح بالخيال نحو قبول وتفسير أحداث خارجة عـن القدرات العـادية للإنسـان. فيتـم تصور الغـول مثـلا عـلى أنه شيء حقيـقي موجـود في الغابة. وهي مـن جانب آخـر (تمجـد البطولة الفـردية مثلما تمجد العـنف والقوة) 4. وهـذا النوع مـن الخيال غالبا ما يبـرمـج التفكيـر عـلى منطـق الاعتـداد بالقدرات الفـردية الخارقة للأبطال، وعـلى منطـق التبريـر والاستسلام للواقـع والتـزام الحـدود المسطـر، فيصنع مـن الناشئة جيـلا استسلاميا انقياديا. كما يبرمجهـم على اللجوء إلى العنف وعلى سلوك التحدي السلبي والتآمر والمخادعة، ويبدد طاقاتهم في جهد ذهني يترجم إلى سلوك يسيء إليهم ولا يفيدهم في شيء.
3- وقصص المغامـرات تسبح بالخيال لصناعـة أحـداث ووقائـع داخلة ضمـن القـدرة الإنسانية، أو تضاف لهذه القدرة. ومن نماذجها كفك الحصار على البطل، أو تزويده بطاقة قاهرة للأعداء. والأطفال يأخذون هذه الحكايات على أنها حقيقة. فتراهـم يشفقـون على البطل ويقـدمون له النصـح كي لا يقـع في الفـخ، وينفعلـون عاطفيا وجسديا، ويصيحون وأحيانـا أو يصرخون. وهـذا النوع مـن الخيال يبرمج الأطفال على المساهـمة في صناعة الحياة على ما يجب أن تكون عليه، لا على ما هي عليه. ويتجه بهم نحـو الإبداع لإيجاد الحلـول.
4- أما القصـص الدينية والتاريخية فتـسبـح بالخيـال لاستحضار الأحـداث، وربطهـا بسيـاق منـطقـي دينـي أو تاريخي، دون تغـييـر الحقائق الثابتة، وذلك لاستحضار فَهْـم مُحـدد. فشخصية خالد بن الوليد وهـو يحمـل راية الإسلام ويخترق صفوف الكفار في المعارك تجعـل الأطفال يتخيلون عزة الإنسان المسلم ويفتخرون بها، ويستحضرون الاعتـزاز بالكيان الحضاري الإسلامي وقـيمه العالية. ويبـرمج هـذا النوع الأطفال عـلى بنـاء الثقة بالنفس، انطلاقا من قناعات تستمد عمقها من أصول دينية وتجارب إنسانية، تبعا لفهم الكاتب.
5- وقصص الحيوانات تسبح بالخيال في مجال التفكيك والتركيب. والتفكيك والتركيب أسلوب من أساليب تعلم الأطفال يشبعون به حب الاستطلاع ومعرفة الأشياء المحيطة بهم. ولذلك تراهم يُركبون للحيوان أعضاءً أو تفكيرا هو ليس له، لصناعة حياةٍ مجتمعية حيوانية، تشبه الحياة الإنسانية. وهذا النوع يبرمج الأطفال على القيم المجتمعية كما يراها الكاتب.
وتتداخل البرمجة الواحدة مع غيرها، والطفل يستمتع بالقصص ويولد صور ذهنية لا منتهية، لتشكـل شخصيته المحددة له، يطبعها اتجاه البرمجة الغالب عليه. هنا يبرز الدور التربوي للخيال في قصص الأطفال. والسؤال الأشـد إلحاحا هـو كيف نوظـف هـذه القصص لنربط خيال الأطفال بسلوك تربـوي وإبداعي يربطهـم بأحـلام عالية وقـيـم سامية تستجيب لتطلعات الأمة؟ فالخيال ليس مجـرد الاستمتاع بصور جديـدة تَمَّ توليدها. ولا هو دائما هروب من الواقع للانطواء حول الذات. فرب قراءة قصة تدفع بخيالِ متحمس إلى تجاوز تقليد، أو وصول إلى إبداع مفيد، أو اكتشاف لعوالم جديدة، أو كسر قيد، أو تغيير واقع.
وإذا كانت قصص الأطفـال مـن الوسائل التي لها دور هـام في تربية الأبنـاء وتأثيـر مباشـر عـلى تشكـيل عقـولهـم ووجدانهـم، فإن الخيال الذي تتضمنه يمكن أن يكـون وسيلة لإرسـاء ثقافـة عربية إسلامية تنهـل مـن التراث العربي والقيـم الإسلامية الأصيلة، فتشبع حاجاتهـم النفسية من هـذا النبع، وتعـزز النـزعة الجماعـية بدل الفـردية التي يتلقـاها أبناؤنا مـن خلال تصويـر أبطال أنانيين.
ولكي يكون ما نقدمه للأطفال صالحا لهـم ومساهما في خصوبة خيالهم وبناء لشخصيتهم المتكاملة يجب أن يناسب أعمارهـم، وألا يتجاوز مستويات إدراكهـم، وأن يتفادى المبالغة والتضخيـم أو التبخـيـس المضـر بالتصورات الفكـرية الإسلامية، وأن يتـضمـن القـيـم الأخلاقـية المساهِـمة في التـربية. فـلا يصـح أن نحـشـو القصص بالخيال الكاذب، ثم نسقي منه العقـول الباطنية لأبنائنا فيستسيغـون الكـذب. وقـد تصبـح القصة وبالا عليهم إذا أغرقـت خيالهـم بالوهـم الزائـف والأماني العاجزة التي ترسخ فيهم الهروب من الواقع وإضاعة الجهد والوقت بدل المساهمة في بناء شخصياتهم بناء سليما.
والقصص التي يطوق أبطالها إلى عالم يعيش فيه الناس على مبادئ العدل والحق والتعاون والتكافل أكثر فائدة لخيالهـم. ولذلك عـلى المربين أن يدركـوا (بأن أية مغامرة خيالية، في أيـة قصة، يجب أن تؤدي هـدفاً اجتماعياً أو أخلاقياً أو وطنياً أو إنسانياً أو غير ذلك، من خلال القيم المبثوثة فيها. وإذا كان خيال الطفل يرنـو إلى الأبطال الأسطوريين، فإنه مـن المفيـد أن نرسـم له، باللغة والصورة، بطـلاً أسطـورياً يحارب مـن أجل المجتمع، ويغالب الصعـاب من أجـل نصرة الحقّ والمظلوم وإعادة الحقـوق إلى أصحابها. وبذلك يجـد الطفل في التخييـل المقـروء معـنىً ساميـاً ومثـلاً أعلى وحيـاة تستحق أن يعيش فـيها الإنسان ويعمل دون أن يمنع عـن الآخرين العيش والعمل) 5.
ويمكن أن يكون اهتمامنا بخيال الأطفال ملتقى لما هو أدبي بما هو حضاري، بحيث يكون الخيال المتولد عـن القصص أداةً لإكساب الأطفـال شخـصية متـوازنة ذات مناعـة ضـد الاختـراق الذي يستهـدفهـم في بعــض الكتابات الأدبية والقصص والرسوم المتحركة، خصوصا وأن الأمة تصارع عدوا شرسا بصناعته، له باع طويل في تشكيل الأفكار والعقـول بشتى الوسائـل المكتوبة والمرئيـة، ويستهـدف أبناءها بالدرجة الأولى في مخططات استراتيجية بعـيـدة المدى. ومـن ثمة يكـون الخيال القصصي أداة للتصدي للتبعـية الفكـرية ووسيلة لتحصين الناشئة كي لا تشوش عليهم التيارات التي تستهدف كيانها.