قليل من الناس من يجمع إلى حيويةِ الشباب وحماستِه رجاحةَ العقل وحكمتَه ونورانيةَ القلب ورحمتَه وخصالَ الرجولة ومزاياها. الداعية المقرئ عبد الوهاب بنطاهر – رحمه الله – واحد من ذاك القليل. والذين عايشوه واحتكوا به يدركون هذا.
عبد الوهاب بنطاهر من مواليد 12 دجنبر 1969 بمدينة وجدة. توفاه الله عز وجل يوم الجمعة 25 يوليوز 1997 الموافق ل 19 ربيع الأول 1418 بسبب حادثة سير، تاركا بنتا سماها خديجة لم يُكتَب له أن يحضر عقيقتها لأنه توفي في اليوم الثالث من ولادتها. رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته.
لقد نشأ سيدي عبد الوهاب رحمه الله في رحاب القرآن منذ نعومة أظفاره. وذلك بفضل حرص والده الكريم المحبِّ للقرآن وأهله، الذي دفع به إلى مشايخ القرآن ليأخذ عنهم. وقد كان لهذا الأمر أثر كبير – بفضل الله عز وجل – في صياغة الشخصية القرآنية لسيدي عبد الوهاب. حتى إنه كان في دراسته ومذاكراته كثير الاستدلال بالقرآن الكريم والرجوع إليه. وقد ختم القرآن الكريم وأعاد، تلاوة وحفظا واستظهارا، بين يدي الأشياخ حتى كانوا عنه راضين وبالخير عليه مثنين.
كما نشأ رحمه الله بارّا بوالديه مستمسكا بدينه مستقيما في سلوكه لا تجرفه رياح الزيغ والانحراف التي تعصف بكثير من الفتيان. وكان متفوقا في دراسته محبوبا لدى مدرسيه، حريصا على مجالس العلماء والدعاة متتبعا لدروسهم ومحاضراتهم وأشرطتهم…
لقد كانت هذه النشأة الطيبة الطاهرة لسيدي عبد الوهاب تهييئا من الله عز جل له لأمر عظيم. إنه أمر الصحبة والسلوك إلى الله عز وجل والانخراط في سلك الدعاة إلى الله. نحسبه هكذا ولا نزكي على الله أحدا. ولما بلغ العشرين من عمره أو قارب، اتصل به بعض شباب جماعة العدل والإحسان فدلوه على مرشدها، حفظه الله، ومنهاجها، فلم يجدوا منه إلا الاستجابة الفورية بعد أن شرح الله صدره للحق. وتلك هي طبيعة القلوب الصافية الطاهرة ترى الحق واضحا بيّنا دونما جهد أو عناء فتنقاد له في سلاسة ويسر. يذكرنا هذا بموقف سيدنا أبي بكر رضي الله عنه الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له عنده كبوة أو تردّد، غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم” 1 . وهكذا التحق بصفوف الجماعة أمضى فيها ثمان سنوات ونيف، ينهل من معين التربية والعلم والإيمان في محاضنها ويبذل من وقته وماله ويشارك في الدعوة ويصبر على تكاليفها… وظل على هذا المنوال حتى لقي الله عز وجل، من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه .فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. وما بدلوا تبديلا 2 .
صدق المحبة والإخلاص في الصحبة
لقد أدرك رحمه الله أن أعظم غاية يعيش من أجلها المرء هي معرفة الله عز وجل والإخلاص في محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن هذه المراتب السَّـنِـيَّة لا تُنال إلا بالصحبة الصالحة وصفاء القلب والجهد المتواصل والتضرع الدائم للمولى الكريم الذي يختص برحمته من يشاء. لذلك كان رحمه الله صادقا في صحبته مخلصا في محبته. زرته يوما بعد غياب طويل، فما هي إلا لحظات اللقاء والسلام والعناق حتى وجدته يحدثني عن معاني الأخوة والمحبة في الله وأنوار الصحبة وبركاتها، فردّدت في نفسي قول الشاعر:
فحسبكمو هذا التفاوت بيننا
وكل إناء بالذي فيه ينضح
لم يكن رحمه الله في هذه المحبة متكلفا أو مدعيا، إنما كان مستنير القلب والوجدان بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل” 3 ، وقوله عليه الصلاة والسلام للسائل عن الساعة : “أنت مع من أحببت” 4 … وكل من عاشره يحس من غير عناء أن الرجل كان يحمل بين جوانحه قلبا مفعما بالمحبة والإخاء والرحمة والرأفة، خصوصا محبة العلماء والدعاة والصالحين وذوي والحظ من الله ومن لهم عليه فضل إرشاد وتوجيه وهداية!
عضو نشيط في الدعوة
منذ أن وطئت قدماه ميدان الدعوة وهو يعمل بنشاط لا يعرف الكلل ولا الملل. يحضر المجالس بانضباط، ويشارك فيها بما وهبه الله تعالى من علم وفهم وحكمة ورأي سديد. وقد أكرمه الله عز وجل بميزة عظيمة حيث كان يؤم المؤمنين بصوته العذب وقراءته الخاشعة في محراب التبتل والمناجاة في الثلث الأخير من الليل في مجالس النصيحة والرباطات والمجالس التربوية. وقد كانت قراءته تطير بمن خلفه في رحاب القرآن إلى عوالم الآخرة وتعرج بهم في معراج التفكر في بديع صنع الله وجل وعظيم نواله وآلائه وفعله تعالى في خلقه…
أما صلته بمن حوله من المؤمنين فقد كان ذا قلب رحيم. يسأل عن أحوالهم ويواسيهم ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم ويدعو لهم. حتى إن كثيرا منهم كانوا يأتون إليه يحكون له همومهم الخاصة يلتمسون عنده رأيا سديدا ودعاء مستجابا. وأما دعوته الناس إلى التوبة وصحبة الأخيار فقد كان الفارس المغوار الذي لا يشق له غبار بفضل ما رزقه الله من كلام طيب ومعاملة حسنة وسحر على القلوب. ونظرا لتهممه العظيم بأمر الدعوة إلى الله وهداية الناس إلى صحبة من يدلهم على الله وعلى الطريق الموصل إليه علَّق في غرفة نومه لوحة كُتِب عليها (الدعوة مهمة الجميع) ليكون آخر عهده باليقظة وأول ما يستقبل به يومه تذكير بأحب الأعمال إلى الله عز وجل ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين 5 . ولذلك كان دائم التذكير والنصح للكبير والصغير والفقير والغني والنساء والرجال والتلميذ والأستاذ…
صبر على المحن والشدائد
وإن الصادقين في طريق الدعوة ينالون حظهم من الابتلاء والمحنة على قدر هممهم وإيمانهم إبرازا لمكانتهم ورفعة لدرجاتهم عند الله سبحانه وتعالى. ولم يشذَّ سيدي عبد الوهاب عن هذه القاعدة خصوصا في الفترة التي قضاها في الجماعة. فلم تمض إلا سنة على التحاقه بالجماعة حتى فرضت الإقامة الجبرية على الأستاذ المرشد واعتقل أعضاء مجلس الإرشاد واستدعي كسائر إخوته في الجماعة إلى مراكز الشرطة لينالوا حظهم من التخويف والترهيب. وما كان لهذا الجبل الشامخ أن يتخلى عن طريق أدرك بكليته أنـها المحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتمضي الأيام ويأتي اليوم المشهود يوم 8 ماي 1990، ويحج المؤمنون إلى مدينة الرباط لحضور محاكمة أعضاء مجلس الإرشاد التي تمت وسط حصار أمني مشدد. ولم يُقدَّر لهذا المجاهد الذي هب مسرعا لتلبية النداء أن يصل إلى ساحة المحكمة، بل اعتقل مع مجموعة من إخوته في محطة القطار بمدينة سلا وسيق مع إخوته إلى مخفر الشرطة ليقضي يوما هناك. ولم ترهبه جلبة المخزن وشرطته ولم يجزع ولم يجبن، بل ظل ثابتا مستبشرا منشغلا بذكر الله عز وجل. كما لم يتخلف يوم 19 غشت 1991 عن محاكمة طلبة كلية الطب بالبيضاء.
وتأتي الأحداث الجامعية خريف 1991 بوجدة، والتي كانت مؤامرة انتقامية مكشوفة استهدفت الجماعة. وكانت الحصيلة اعتقال العشرات من الإخوة الأبرياء الذين لُفّقت لهم التهم الباطلة وحُكم عليهم بأحكام قاسية وصلت إلى عشرين سنة سجنا، كان نصيب سيدي عبد الوهاب من هذه المحنة ثلاث سنوات من الأسر ظلما وعدوانا تاركا وراءه عروسا لم يمرَّ على دخوله بها إلا أربعة أشهر، تركها تعد السنوات الثلاث يوما بعد يوم وليلة بعد ليلة. أما هو فقد كان سجنه ظاهره المحنة وباطنه المنحة؛ حيث جعل من سجنه رباطا للذكر والتهجد وطلب العلم والتفقه في الدين وتعليم القرآن. لقد كان رحمه الله الشيخَ الذي يأخذ عنه الإخوة في السجن القرآن الكريم، ليتفرغ بعد ذلك الساعات الطوال للاستغراق في ذكر الله عز وجل لينال شرف: “أنا جليس من ذكرني” 6 . وقد شهد له بهذا الإخوة الذين قضوا معه هذه الفترة حتى قال أحدهم: أما سبحته فقد أعياها العدّ).
وتمضي فترة السجن دون أن تفت من عضده أو تنال من عزيمته، بل عاد إلى صفوف الجماعة أكثر مواظبة وحضورا وحركة ونشاطا لم تُعهَد فيه من قبل.
عاد إلى والديه الذين قاسماه المحنة والأجر بطول غيابه عنهما وهو الابن البارّ المحبوب. وعاد إلى عروسه التي طال انتظارها له. وما هي إلا سنة من خروجه من السجن حتى أكرمهما الله عز وجل ببنت سماها فاطمة الزهراء. فرح بها واستبشر لكنه تبين له أنّ بها عاهة بدماغها. تلقى قضاء الله بالرضا والقبول وبذل جهده في اتخاذ الأسباب لعلاجها، لكن شاءت حكمة الله أن يأخذ منه هذه البنت بعد بضعة أشهر من ولادتها. ويا عجبا لهذا الجبل الراسخ! لم يجد وسيلة لإخباري وأنا البعيد عنه ب260 كلم إلا أن يأخذ ورقة وقلما بُـعَــيْدَ وفاتها بلحظات ليكتب لي رسالة مفادها أنه سجل ابنته فاطمة الزهراء في مدرسة الخليل إبراهيم عليه السلام لتحفيظ القرآن الكريم، إشارة منه رحمه الله إلى الدعاء الذي ندعو به للميت الصبي في صلاة الجنازة: واجعله في كفالة سيدنا إبراهيم) وكذلك الحديث الصحيح: “فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة فيها من كل لون الربيع وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط” 7 . لقد تلقى قضاء وفاة ابنته بالرضا والقبول والصبر والتسليم تأسيا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون 8 .
القلب الخاشع والعين الدامعة
لقد كانت الابتسامة التي تعلو وجهة والبشر الذي يغمر محياه يخفيان خلفهما قلبا خاشعا متبتلا تخبر عنه الدموع السائحة على خده، تجريها من مآقيها تلاوة آي القرآن وسماعه، وترغيب الوعظ وترهيبه، ومشاعر الخوف والرجاء، وحُداء الشوق إلى الله ورسوله… استُدعي يوما إلى وجبة إفطار، وكانت تتلى في البيت سورة الانفطار بصوت الشيخ محمد صديق المنشاوي، فأجهش بالبكاء وترك طعامه ومضى. بل إنه كان يبكي أحيانا لكلمة عابرة أو موقف لا يلقي له الناس بالا، لكنه يفهمه عن الله ويلتقط منه إشارة ترشده في سلوكه إلى الله جل وعلا وتوجهه. بل الأغرب من ذلك أن الأناشيد التي يطرب الناس لها ويمرحون تبكيه أحيانا لأنه تجاوز النغم والإيقاع إلى الكلمات التي يرى نفسه مخاطَبا بها خصوصا إذا كانت تحرك الأشواق إلى الله ورسوله أو تحكي هموم الأمة… أنشد أحدهم يوما (أخي أنت الربيع فأي شيء في الحياة إذا ذبلت، أنت المضاء فأين تنطلق الحياة إذا مللت، أنت الحياة فقم إلى الأنحاء وانظر ما فعلت، كن مسلما…) فبينما الحاضرون يترنحون للنغم العذب إذا به يبكي. فعلمت أنه يستشعر عظم مسؤولية المسلم وخطورة الذبول والملل في طريق الله عز وجل، ومن يدري؟ فربما ما لم أدركه أعظم!
وأما بكاؤه عندما يؤم الناس في الثلث الأخير من الليل وهو يرتل آيات الله عز وجل فيذكرنا بمن وصفهم الله عز وجل في كتابه: إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا 9 وقوله عز من قائل: يبكون ويزيدهم خشوعا 10 .
لقد كان رحمه الله رقيق القلب منذ صغره وزاده الله رقّة في القلب ورحمة لما أكرمه بالصحبة الصالحة وبالتربية الإيمانية وسط إخوته المؤمنين.
“الرؤيا الصالحة.. يراها العبد أو ترى له”
هذا جزء من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا فيه أن الرؤيا الصالحة هي المبشرات التي بقيت بعد انقطاع النبوة والرسالة. والرؤيا الصالحة “جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة” كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان. لاسيما الرؤيا الإحسانية التي تبشر العبد الصالح بالقرب من ربه عز وجل وتريه وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسمعه منه ومن عباد الله الصالحين إشارات الفوز، وتمثل له النجاة من العذاب والانضواء تحت لواء الأخيار) 11 .
وقد أكرم الله عز وجل أخانا عبد الوهاب رحمه الله بالحظ الوافر من هذا المنحة، فقد كان كثير المرائي والمبشرات من النوع الإحساني. وتلك هي حال أصحاب الأرواح الطاهرة والقلوب المنورة والألسنة التي تلهج بذكر الله ولا تفتر. أرواح صفت فعانقت عالم الغيب وأصبح أقرب إليها كما لو كان عالم الشهادة!
خاتمة
ولا يمكن أن يختم الكلام في بضع صفحات عن رجل رزقه الله في الكثير من خصال الخير والصلاح، ولكنها خواطر تصف قطرات من بحر فضل الله على سيدي عبد الوهاب وما ناله من خير ببركة الصحبة والاتباع. جعله الله في أعلى عليين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وألحقنا به مسلمبن محسنين.
[2] الأحزاب: 23.\
[3] رواه أبو داود والترمذي وحسنه والبيهقي والقضاعي عن أبي هريرة.\
[4] رواه الإمام مسلم وأحمد.\
[5] الشورى: 33.\
[6] رواه البيهقي والديلمي.\
[7] رواه البخاري والمقصود بالرجل هو إبراهيم عليه السلام وأما الولدان فكل مولود مات على الفطرة.\
[8] رواه الشيخان.\
[9] مريم: 58.\
[10] الإسراء: 108.\
[11] الإحسان: ج2 ص36.\