الدعوة إلى الله: الموجبات والفوائد التربوية والتغييرية

Cover Image for الدعوة إلى الله: الموجبات والفوائد التربوية والتغييرية
نشر بتاريخ

للتهمم الدعوي موجبات شتى؛ ربانية، ونبوية، وواقعية، ونفعية، وشخصية، وجماعية.

1- الموجبات الربانية

من سنن الصحابة في اللقاء بعد تبادل السلام وقبل سلام الوداع؛ تلاوة سورة “العصر”. والسر في الأمرتعاهُــد وتذكير بأن سورة العصر مختزلة لمقومات الفلاح في أي عصر ومصر.

أصغر سورة يتصدرها التأكيد الإلهي بواو القسم بالدهر وما يثوي في ثناياه من عظات وعبر، وبـ”إن” أداة التوكيد وتثليثا بـ”لام” التوكيد إقناعا بأن الإنسان ملفوف بالخسران مجانب لسبيل الفلاح ما لم يتحل بالإيمان، بما هو اعتقاد واقتناع، وتبين وتبصر وإلمام واستيعاب.

وبـ”العمل الصالح” وما يستجمعه من معاني الترجمة الفعلية للقناعات، والبرهنة السلوكية على المعتقدات، التزاما بالتعبد لله شعائريا والتماس رضاه بالآداب تخلقا، والعبق طيبة بما يستهوي القلوب صفاء ووفاء ونقاء تعاملا.

وبالتواصي بالحق وما يثوي في ثناياه من واجب الدعوة والتواصل، والتهمم بتكثير سواد التدين، وتوسيع دائرة الوقافين عند حدود الشرع، والذائدين عن حماه، وما في معناه من مقتضيات التربية والتعهد، والاستيعاب الراشد بما يناغم في الالتزام بين الكم والكيف، ويدرأ سلبيتي الغثائية والفئوية.     

وبالتواصي بالصبر، إيماء إلى تيمم اقتحام العقبة نحو حُــسنيي الغاية الاستخلافية وأقصى الغايات الغاية الإحسانية بمفهومها الإيجابي؛ ولاية وربانية في الصلة بالله، وصناعة للحياة والتاريخ بالتعرض لمواعيد الله بالتمكين والتوريث والتغليب لجنده وعباده الصالحين، وللبشائر النبوية إرساء لصرح الخلافة الراشدة على منهاج سيد المرسلين.

2- الانتصاب للدعوة: استجابة للأمر الإلهي

(أ) الأمر بقول صريح اُدْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَة [النحل: 125] وما في الامتثال من عربون العبودية، وتلقي التوجيه الإلهي بنية التنفيذ، والتلذذ بفعل الطاعة.

(ب) كما أن في هذه الاستجابة ترشيحا للنفس لشرف وسام “الإحسان” المترتب بتزكية ربانية، وشهادة إلاهية على الاعتزاز بالانتماء إلى دين الله، والسعي بكل جهد إلى الدلالة على الله وتوجيه قلوب الخلق إلى الخالق، لقوله سبحانه عن هذا الاستحقاق: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين [فصلت: 33].

(ج) وقرين ذلك ونِـده إقامة عبادة الدعاء في مقام الشهود والحجية على المنكرين والجاحدين أنهم لم يبلغهم من الله بشير ولا نذير، فدلالة الدعاة قــدر الله لئلا يكون للناس على الله حُجة. يقول سبحانه: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف: 164].

(د) علاوة على ذلك ما في المهمة الدعوية من التنصيب الإلهي للدعاة كصمام أمان ودرع حماية وجنة وقاية للقرى من الهلاك إذا طم فيها الفساد، وعم الانحلال، وتجاوز فيها المدى البُعدُ عن شرع الله. فسنة الله في القرى ألا يهلكها بظلم وأهلها مصلحون. وحديث السفينة النبوي تأكيدٌ لهذا المعنى وتوضيحٌ له بأجلى تعبير وأجمل مبنى.

(ه) هذا دون الحديث عن الإسهام الشريف في تبوء الأمة المحمدية لمقام الخيرية، واستفراغ الجهد للحفاظ على هذه المنزلة التي تجعل المسلمين شامة في الأعين، وتسلمها مقاليد الشهود والقيمومة على العالمين وفقاً للنعت الإلهي المرتبط بشرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، مقرون بـ:تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر [آل عمران: 110]، وضمان استدامة هذا الفضل لئلا يبيد بفعل طول الأمد المُوَرث لقسوة القلوب والتفريط في الواجب هو وجود المكون الدعوي المنتظم المتفرغ للدعوة والإصلاح وقاية من المصير المشؤوم الذي آل حال بني إسرائيل الذين كانوا محل التفضيل الإلهي على العالمين فانتهى بهم إلى الإبعاد من رحمة الله بحُـكم مُعلل من رب العالمين إذ قضى فيهم بقوله سبحانه: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة: 78].

3- التهمم بأمر الدعوة دليل اهتداء واتباع فعلي وحقيقي للسنة والسيرة النبويتين

(أ) فمن دعا وبلغ فقد امتثل الأمر والترغيب النبوي حينما قال: (بــلــغـُـوا عني ولــو آية) 1.

(ب) ومن هدى إلى سبيل الله فقد أعطى برهان الصدق على دعوى التبعية للقدوة النبوية، وعلى عربون التبصر في دين الله. فقوله سبحانه وتعالى: قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108] مُؤكـد لهذا المعنى، وبشارة خير على الانتماء للسلسلة النورانية التي تبتدئ بمشكاة النور الإلهي المـُوحَـى إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم عبر أمين الوحي عليه السلام، وحلقتها الموالية الصحابة الكرام، ثـُم التابعون الأبرار، ثـُم الذين يلونهم إلى يوم الدين.

(ج) فلا يلبس درع الدعوة ويمتشق سنانها إلا مُحب خالط الحب النبوي شغاف قلبه، ويسعى بصدق للإسهام في ما سيفاخر به النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم من كثرة الاتباع. كما أن من الفطرة الإلهية في الخلق أن مـَن أحب محبوبا بإخلاص وتجرد سعى تلقائيا إلى تكثير سواد مُحبيــه إقرارا لعين المحبوب والتماسا لرضاه وتشريفا وتمكينا وتمتينا لجنابه. وإلا فالحـُب مجرد دعوى لا تدعمها بَـينــة، ولا يُـدلل عليها برهان.

فالكتاب والسنة حافلان بما يـُلزم بالدعوة والتبليغ. وسيَــر الصحابة الكرام وحياة التابعين من صالح سلف الأمة تعبـق بهذا الهم الشريف. فلا عجب وجماعة العدل والاحسان تتغيى حذو المنهاج النبوي أن تختـزل التعريف بنفسها حينما يُسأل أئمتها وأتباعها عن هوية الجماعة وقصدها بقولهم: (نحن جماعة تتوب إلى الله وتدعــو الناس إلى التوبة إليه).

4- الفوائد التربوية للدعوة إلى الله

كشأن جميع الطاعات والامتثال لأوامر الشرع في جني ثمراتها في الحياة قبل ما يترقب من جزاء أوفى بعد الممات، للدعوة إلى الله فوائد يُـحَصلها الداعي قبل المدعو، ومنها:

(أ) أن الدعوة وسيلة للحفز على المزيد من التفقه في الشرع، فـ(من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) 2. وبقدر ما يكثف المؤمن سعيه في الدعوة تُـواجهــه تساؤلات وتحديات، يجد نفسه مطواعة للبحث والتنقيب والمطالعة والحفظ للإفلاح في جهاد الكلمة تـُحفزه في ذلك أن “الحكمة ضالة المؤمن فحيثـُما وجدها فهو أحق بها” وأن العلم نور يُشخص مفاتيح قلوب الناس، ويُعـرف بالحيثيات المضلة والهادية، ويُلهم الأسلوب الحكيم لمقابلة كل حادث بما يوائم ويلائم من حديث، ويُـذهب حسرات النفس على انغلاق القلوب في وجه الداعية، وإصمام الآذان، والتعنت والاعتزاز بالإثم في التشبث بالقناعات مهما كان زيفها وبوارها.

(ب) كما أنه ليس من وسيلة لرفع الهمم، وأسلوب لشحذ العزائم وتقوية الإرادات للتخلق بمكارم الأخلاق ومحاسن ومحامد الخصال الطيبة أنجع من يقين الداعية بأن الدعوة بالحال أبلغ من التبليغ بالأقوال. من هناك يجد في نفسه حبا منقطع النظير في أن يكون أول من يتلقى أقواله بنية التنزيل والتحقق في سلوكه وتعامله، تجنبا لانفصام الشخصية ونعوت الغير له بالنفاق والقول بلا عمل، ودرء المقت الإلهي المعلق على رؤوس الأدعياء في قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 3-2].

فحسن التوافق بين أقوال الداعية وسلوكاته إن لم تـُـتوج باستجابة من المدعو تكسب تأييده وانتماءه وبذله، فلا أقل من إشعاعه ونورانيته وعطر سيرته تُـورث في نفس من رأى وحتى مجرد من سمع احتراما وتقديرا وحياء، تحييدا لبأسه إن كان ذا بأس.

5- الفوائد الحركية للدعوة إلى الله

وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ سُنة في المدافعة. فمنطق الساحة يستدعي النواة الصلبة الحاملة والحاضنة الشعبية المؤوبة وحيوية الجماعة ومصداقية مشروعها تنظيرا وتنزيلا. بهذه الموازين يقيس الخصوم قامات وموازين قِــوى معارضيهم، ولا سبيل لهذه الأسِنة والمتاريس إلا بالدعوة لا تتوقف، وبالاستيعاب والاستقطاب والإدماج البَناء المُـتئد.

6- الدعوة إلى الله تجارة لا تبور، ومَعين ثواب لا يغور

أوضح ما يترجم هذا المعنى قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (فَـوَ الله لَأن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حُمر النعَـم) 3، كما خـًرج الترمذي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملةُ في جُحرها، وحتى الحوتُ في البحر ليُـصلون على معلمي الناس الخير”.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الأصل البشري لكل مَن اهتدى مِـن أمته على امتداد زماني ومكاني إلى يوم القيامة، كل من فعل ذرة من خير من الذين اهتدوا فهو في ميزان حسناته. وكذلك الصحابة والتابعون والأولياء والصالحون والعلماء العاملون، والدعاة والمهتدون الهداة، لهم أعمار مديدة بما يـُذر عليهم من ثواب مثل ما يفعله المهتدون على أيديهم، والمهتدون بمن اهتدى بهم إلى يوم الدين دون أن يُنــقص من أجور العاملين شيء. وعليه يأتي الناس يوم القيامة زمرا. كـُلا ومدعويه.

فإن كان مدعو شـر تبع داعيه: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر: 71]. واتبعوا أمر فرعون، وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ وَبِئْس الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود: 98-97].

وإن كان مدعو خير تبع داعيه: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر: 73]. والجميع تابع للرحمة المهداة والنعمة المسداة، صلى الله عليه وسلم.

فليُجانب المؤمن حِـلس بيته، وليخرج من الاهتمام بمجرد خُـويصة نفسه، وليتهمم بأمر أمته، وليضع نُصب العين حذو خُطى عباد الرحمان الذين هُـم في الدعوة مجتهدون وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍۢ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74].

7- الدعوة مقامات ودرجات

فإن كان المؤمن داعيــةً فليتحَـر في هذه المُهمة المعالي، وليرتع منها فيما هو أشرف وأسنى، فأشرف الدعوة ما عَــلت مقاصدُها، وامتدت بالأثر سـعةً وعـمقا مـنافعُـها:

– فالدعوة إلى الله أرقى من مجرد الدعوة إلى الإسلام، لكنه لا إحسان بدون إيمان، ولا إيمان بدون إسلام، كما يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله.

– والدعوة بالاستيعاب والتربية والتعهد أرقى من مجرد “قُـل كلمتك وامــض”..

– والدعوة إلى العدل والإحسان معا أفضل من مجرد الدعوة إلى أحدهما.

– والدعوة إلى التشرف بالانتماء إلى الحركة الدعوية الإسلامية أجل منها الحَـض على البذل فيها، والفاعلية صفا مرصوصا مع دعاتها وجُندها.

– والدعوة إلى حُـسنى الدنيا وحدها أو حُـسنى الآخرة وحدها أرقى منهما الدعوة إلى حُـسنَيي الدنيا والآخرة؛ تعرضا لمواعيد الله وبشائر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى حسنى الفوز بجنان الله ومعية المُـنعم عـنهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين والتملي بالنظر إلى وجه الله عز وجل.

وختاما نسترشد بكلام قيم للإمام المجدد رحمه الله جامع نَيـر من أجل استبانة الدعوة إلى الله الرسالية ومقتضياتها ومعالمها، حيث يقول رحمه الله في خصلة البذل – تنظيما – بالمنهاج النبوي: “الدعوة إلى الله أول كل شيء نـداء بالرجعة إلى الله عز وجل والسلوك إليه وتحقيق العبودية له، ثم هي معارضة للباطل حتى تُـنقض بناءَه، ثم هي المسؤولة يوما عن مسك زمام الأمور وتدبير عجلة الإنتاج، وتدبير مشاكل الدولة، وإحلال العدل والرخاء والأخوة في الأمة” 4.

ويقول كذلك: “ما الإسلام والدعوة إلى الله وعظ وتأملات، ولا هما بعد الصحوة المباركة تأملات في الأصلح، ومعارضة عاجزة لحكم الواقع الجبري. جُـند الله ينزلون إلى الميدان يُهيئون قبل الوصول إلى الحكم الخبرات والكفاءات اللازمة لتغيير ما بالأمة من أمراض ولتدبير شؤونها. وبعد الوصول تعبئ الـدعوةُ الشعبَ إلى جانبها لإنجاز المهمات الاقتصادية والحضارية والاجتماعية وسَـد الفجوات المتخلفة عن قرون الفتنة” 5.

أخيرا، رجاؤنا في الله أن يُـحبب إلينا الإيمان ويُـزينه في قلوبنا، وأن يُـكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يُـثبتنا على نهج الهدى ويجنبنا أسباب الزيغ والردى، وأن يستعملنا في دعوته والدلالة عليه قولا وعملا وبكل وسيلة حكيمة مُجدية، وأن يُـلهمنا الرشد في القول والسداد في السلوك والإخلاص في القصد، فإنه بنعمته سبحانه تتم الصالحات.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وحزبه ما دامت الأرض والسماوات. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


[1] رواه البخاري.
[2] رواه البخاري (71)، ومسلم (1037).
[3] متفقٌ عليهِ.
[4] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ط 2022/5، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع، استنبول، ص 223.
[5] نفسه، ص 221.