بقلم: عبد الحفيظ الإدريسي
الدعوة إلى الله سلوك إلى الله:
إنه مما لا يخفى على كل ذي علم أن الدعوة إلى الله عز وجل هي لبُّ الأمر كله، هي وراثة عن النبوَّة. وهي الطريق إلى الله، والسلوك إلى الله، على مدارج الإيمان نحو ذرى الإحسان. دلالة على الله.
وما خلق الله من سماوات وأراضين، وبر وبحر، وجن وإنس، ودنيا وآخرة، وما بعث من رسل وأنبياء، وما اصطفى من أصفياء وأولياء، واصطفى الهداة، إلا ليتحقق معنى عبوديته جل وعلا، ويعرفه بما ينبغي في حقه من كمال مطلق، من سبقت له العناية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى:
“والدعوة إلى الله واجبة على من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أمته وقد وصفهم الله بذلك: كقوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فهذه في حقه صلى الله عليه وسلم، وفي حقهم قوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية، وقوله: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر الآية. وهذا الواجب واجب على مجموع الأمة، وهو فرض كفاية يسقط عن البعض بالبعض كقوله: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير الآية. فجميع الأمة تقوم مقامه في الدعوة: فبهذا إجماعهم حجة وإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله ورسوله “أهـ كلام ابن تيمية.
إن من واجباتنا أن نؤصل في أذهان جميع المسلمين هذا الأصل الأصيل، ألا وهو وجوب الدعوة إلى الله تعالى، باعتباره شعبة من شعب الإيمان فيدرك الجميع أن مما يتحقق به التقرب إلى الله والسلوك إلى الله دعوة الناس إلى الله تعالى. هذا الباعث يحتاج إلى مزيد عناية من الدعاة، لأننا عانينا الأمَرَّيْنِ عندما اتجهنا نحو تركيز المادة العلمية الشرعية، وابتعدنا عن الجانب الإيماني الإحساني، اللهم إلا بعض المواعظ التي لا تسمن ولا تغني من جوع فخرج علينا جيل من المنتسبين إلى الدعوة يفصلون بين لسان المقال ولسان الحال وكم مرة كان لسان الحال أبلغ من المقال، وإلى هذا تشير الآية الكريمة من سورة الجمعة هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين انظر إلى قوله تعالى يزكيهم قبل أن يعلمهم.
هذه التزكية تظهر وتتأتى في صحبة الناس ودعوتهم بالكلمة الطيبة والانفتاح عليهم، وتنمو بالذكر والعبادات، وتكمل فيمن عرف عدوه الألد نفسه الأمارة بالسوء، ثم حاربها على ضوء كتاب الله وسنة رسوله السنة الكاملة.
الدعوة إلى الله جهاد:
الدعوة إلى الله جهاد بأبوابه المتعددة يحتاج إلى تربية متكاملة، وقابلية للجهاد وصبرا واقتحاما للعقبات، يحتاج إلى تربية المؤمن الخبير القادر بإيمانه على النهوض بأعباء الدعوة وبخبرته الخادمة لمقتضيات إيمانه على النهوض بأعباء الدولة والإدارة والعمل المنتج. يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله في افتتاحية العدد السابع من مجلة الجماعة:
“إن تصورنا كما عرضناه للدعوة والجهاد علما قابلا للأخذ والرد لا نزعم أننا نصيب لا نخطئ، ومنذ الآن يطلب منا الحال أن نشخص المنهاج الذي ندعو إليه في رجال. فالفجوة بين الدعوة العامة، ومنها حوارنا هنا للنخبة المغربة، وبين الجهاد الموحد المنظم هي فجوة تربية الرجال.”
قال ابن كثير رحمه الله:
(قال ابن إسحاق ثم قدم مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلاً مستضعفين ممن آمن به، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم – إذا كانت – على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله عز وجل ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به) البداية 3/138.
وعلى هذا كان الرسل الذين بعثهم الله للدعوة إليه، يجاهدون غاية الجهاد لتبليغ الناس دينَ الله وتحبيبه إليهم، وتنفيرهم من الكفر به، وتخويفهم عذاب ربهم إن هم أصروا على كفرهم: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل: 36].
وقال أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة وعكاظ: من يؤمنني ومن يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة؟ فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه، حتى إن الرجل ليرحل من مصر أو اليمن إلى ذي رحمه فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله من يثرب، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، وبعثنا الله إليه فأتمرنا واجتمعنا وقلنا: حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف؟
فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا بيعة العقبة فقال له عمه العباس: يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك؟ إني بمعرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا قال هؤلاء قوم لا نعرفهم هؤلاء أحداث.
فقلنا يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: “على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أن تقوموا في الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة” [زاد المعاد (2/56)].
يتحدث الإمام المجدد عن جهاد الحجة والكلمة فيقول رحمه الله:
“بقي لنا بعد افتضاح الإيديولوجية بضآلة نتائجها، بل بوحشية نتائجها الفظيعة، أن نقدم -على مستوى الخطاب والجدال والتفهيم- الإسلام في إيجابيته. نتحدث عن الإنسان في شموليته. عن مصير المجتمعات التاريخي، وعن مصير الإنسان الفرد المدعو إلى الله. مصيران مشتبكان متعانقان. ونربط مصير المجاهد بمدى سعيه لتحقيق مصير العزة لأمته. فإن الله تعالى إنما وعد الشهيد بالحياة الخالدة في النعيم لأنه يسعى بجهاده وبذل حياته في إحياء أمته. هكذا يطلب من الداعية إلى الله أن يكون في زمن تواطأت فيه الأصوات التي تصد عن سبيل الله”.
الدعوة إلى الله انتساب إلى أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يقول سبحانه وتعالى- في كتابه العزيز:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وقد رجح كثير من المفسرين أنها نزلت في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في عدد من الأحاديث، نذكر منها:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قَالَ: خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ؛ تَأْتُونَ بهِمْ في السَّلَاسِلِ في أعْنَاقِهِمْ حتَّى يَدْخُلُوا في الإسْلَامِ).
وعن معاوية بن حيدة القشيري -رضي الله عنه-: (أنَّهُ سمعَ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ في قولِهِ “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”، قال: إنَّكم تُتمُّونَ سَبعينَ أمَّةً، أنتُمْ خَيرُها وأَكْرمُها علَى اللَّهِ). ويتضح من هذه النصوص أنها تدل على ثبوت عموم الخيرية لعموم هذه الأمة، وهذا ما اختاره ابن كثير، وابن جرير الطبري، وابن حجر العسقلاني.
لكن هذه الأمة لم تنل هذه المكانة العالية الجليلة من فراغ؛ فقد بيّن المولى سبحانه سبب الخيرية في ذات الآية المذكورة سابقاً: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وهو ما عبر عنه القرآن في موضع آخر: الدعوة إلى الله على بصيرة، فإن فقدت هذه الأمور في جيل من أجيال هذه الأمة؛ لم يكن حريًا بهذه الأمة الخيرية التي حظيت بها.
ليس هناك من انتساب أعظم شأنا وأرفع وأشرف مكانا من الانتساب للأمة الإسلامية لأنه انتساب إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم هو انتساب لسيد الأنبياء والرسل محمد – صلى الله عليه وسلم – وإلى السلسلة النورانية. وهو انتماء لهذا الدين وأهله وأي انتماء أعظم من الانتماء لدين الله عز وجل وقد جاءت الآيات القرآنية تصرح بأفضلية هذه الأمة.
يقول تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً البقرة/١٤٣. لا بد إذن لمن يروم أن ينال شرف الانتساب أن يكون بين الدعاة بما يسر الله له من علم وإن يكن يسيرا.
يقول الإمام المجدد في كتاب العدل ص246:
“خلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته «جماعة المسلمين» وهم أمة راشدة مسؤولة مؤهلة لحمل عِبْء الرسالة والتبليغ. كانوا أمة بكل معنى الكلمة، كانوا خير أمة أخرجَتْ للناس. الأمة لغة: «كل جماعة يجمعهم أمر واحد، أو دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد. سواء كان ذلك تسخيرا أو اختيارا». التسخير لمِثل أمة الطير المسخـرات في جو السماء. والاختيار والإرادة المسؤولة لمثل المهاجرين والأنصار الذين جمعهم دين واحد وتبوأوا الدار والإيمان في دار الهجرة، وقد هذبتهم الهجرة والنصرة”.
وهو المعنى الذي نريد أن نؤكد عليه في هذه الفقرة وهو أن الدعوة إلى الله وحمل عبء التربية والتبليغ يؤهلك إلى الانخراط في سلك هذه الأمة المرحومة.
خاتمة:
لقد ضاق مفهوم الدعوة عند كثير من الناس، فأصبحوا لا يفهمون منها إلا أنها وعظ وإرشاد في المساجد أو في الاجتماعات الطارئة، أو توزيع بعض الكتب والرسائل…
وهذا لا شك من الدعوة إلى الله. لكن ما ينتظر الدعاة إلى الله أكبر من ذلك فالأمة تحتاج إلى من يسمع فطرتها، من يعيد لها وهجها ومجدها من يقدم لها الإسلام في صورته المثلى: عدل وإحسان وترقب للساعة.