إنها لمهمة شريفة، ونسبة منيفة، أن يستعملك المولى عز وجل في سوق عباده إلى حياض محبته و رحاب رحمته لتدخل في سلك الداعين إلى الله بإذنه من الأنبياء و المرسلين والصالحين المصلحين من عباده، فيكون لك من الأجر خير من حمر النعم بل خير مما طلعت عليه الشمس. لتكتب في ديوان المجاهدين المرابطين على ثغر الدعوة إلى الله راسخ القدم تذب عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما علمك الله من علم ولو آية مساهما في تكثير سواد أمته.
1- الدعوة إلى الله محبة من الله لعبده الداعي
إن الدعوة إلى الله عز وجل وسام اصطفاء ومحبة سابقة من المولى عز وجل لعباده المصطفين الأخيار يستعملهم سبحانه لهداية خلقه فذاك عنوان السعادة والفلاح، قال الحسن البصري قال بعض أصحاب النبيﷺ: “والذي نفسي بيده إن شئتم ﻷقسمن لكم بالله إن أحب عباد الله الذين يحببون الله إلى عباده ويحببون عباد الله إلى الله ويسعون في الأرض بالنصيحة.” جامع العلوم والحكم (1/81). بشارة مُحبّبة بل أحبية عند الله تعالى أن تمشي في الناس بالنصيحة فتحوز من الدين أكمله ومن الإسلام سنامه إذ الدين النصيحة، و أسنى وأعلا من ذلك أن تكون قدمك على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية ودعوة وجهادا في اتباع كامل لمنهاجه صلى الله عليه وسلم فتكون محبوبا عند الله عز وجل. قال سبحانه: قُل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، ثم لتكون من الأمة المخصوصة بالخاصية الأجل يدعون إلى الخير، قال تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون آل عمران: 104.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا استعملَه، فقيل: كيف يستعملُه يا رسولَ اللهِ؟ قال: يوفِّقُه لعمَلٍ صالحٍ قبلَ الموتِ” أخرجه الترمذي. أن يستعملك المولى عز وجل في عمل صالح قبل الموت هذا خير كبير، لكن أكبر منه و أجل أن يستعملك في عمل صالح يتعدى خيرك إلى غيرك فيكون لك عمرا ثانيا بعد انقطاع العمل بحسن الختام فتجد في صحيفتك من دعوت من الناس أبناء معنويين يدعون لك بظهر الغيب، وإن الله تعالى لا يزال يغرس في هذا الدين من يستعمله في طاعته ودعوته.
2- الدعوة إلى الله برهان محبة العبد لمولاه
سابقة المحبة من الله لعباده الصالحين المصلحين، يستعملهم في جهاد الكلمة والتبليغ لا يملكون معها إلا أن يبادلونه حبا بحب وهداية بخدمة وتوفيقا بشكر، ما يجعلهم يستميتون في الثبات على خط دعوته مقبلين غير مدبرين، قوما قائمين بالحق والقسط شهداء بهما، وجلين أن يستبدلهم إذا بدلوا أو غيروا متمثلين قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدد مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ المائدة 54.
لا يخافون لومة المغرضين أو المعاندين ولا استهزاء المستهزئين يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّه الأحزاب 39، فيكتسبون بهذا الثبات والصدق وقبلهما بتلكم المحبة قبولا ومصداقية عند الناس فيكون لكلمتهم صدى وترجيعا ينفذ إلى القلوب لينفض عنها غبار الغفلة والإعراض عن الله تعالى، وتلكم والله عاجل بشرى العبد المحبوب عند مولاه مالم ينسب إقبال الخلق عليه إلى نفسه،فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ اللَّهَ إذا أحَبَّ عَبْدًا دَعا جِبْرِيلَ فقالَ: إنِّي أُحِبُّ فُلانًا فأحِبَّهُ، قالَ: فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنادِي في السَّماءِ فيَقولُ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّماءِ، قالَ ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ”. صحيح البخاري
إن قلب المؤمن التقي النقي عندما يعمره حب الله ويغمره فضل الله لا يجد بدا من المسارعة في الخيرات شكرا لله تعالى على ما حباه من نعمة الهداية والمحبة فيدعو غيره إلى الهدى ودين الحق ليظهره الله فيهم كما ظهر فيه. جاء في تفسير البحر المديد للإمام بنعجيبة رحمه الله في قوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ الأنبياء 73، قال رحمه الله في إشارة: “إنما يعظم جاه العبد عند الله بثلاثة أمور: انحياشه بقلبه إلى الله، ومسارعته إلى ما فيه رضا الله، وإرشاد العباد إلى الله، بدعائهم إلى الله بالحال والمقال، فبقدر ما يقع من هداية الخلق على يديه يعلو مقامه عند الله”.
3- الدعوة إلى الله حب في الله بين الداعي والمدعو
بتلك المحبة والرحمة التي تملكت قلب الداعي إلى الله يمشي بها نورا في الناس يحب لهم خير الهداية كما يحبه لنفسه فيكون بحاله داعيا إلى الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألَا أُنبِّئُكم بخِيارِكم؟ قالوا: بلى يا رسولَ الله! قال: خياركم الذين إذا رؤوا ذكر الله عز وجل” صحيح بن ماجة. بعد ذلك يأتي المقال تعبيرا فياضا عن تلكم الشفقة والمحبة يدعو الناس إلى الخير فتحبه القلوب الصادقة استجابة لنور الهداية المكتوب عند الله في الأزل لأن “الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف” صحيح البخاري.
وإن أول ما يتعلق به المدعو في مسيرة توبته وسيره على طريق الاستقامة رجل نور الله قلبه يميل إلى سماع دعوته والاستجابة لندائه حتى يذوق حلاوة الإيمان فيمج بقلبه مرارة ماضي غفلته ومخالفاته لتتعلق همته بطلب أعز ما يطلب وهي محبة الله ورسوله، متحققا بقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ” صحيح البخاري.
إلى ذلك أشار الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله في فقرة بديعة من رسالة الدعوة إلى الله، مؤكدا على محورية المحبة والصحبة في أمر الدعوة إلى الله، يقول رحمه الله: “ما أعطف وأنبل وأحب إلى رب العالمين أن تنحني على مهد وليد الدعوة وتغذوه بمحبتك وصحبتك، ثم تتابع خطواته وهو يصحو من غفلة طفولة مروءته، ويتقوى من وهن خوفه من غير الله، ويبتهج قلبه باكتشاف حلاوة الإيمان النابعة من ذكر الله…”
فكلما ارتقى الحب في الله الساري بين الداعي والمدعو يرتقيان به معا في مدارج الإيمان إلى ذرى الإحسان طريقا موصلة سيارة إلى مقام المحبوبية عند الله تعالى مصداقا لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “قال اللهُ تباركَ وتعالى: “وجبَتْ مَحبَّتي للمتحابينَ فيَّ والمتجالسينَ فيَّ والمتزاورينَ فيَّ والمبتاذلينَ فيَّ”، أخرجه الهيثمي عن معاذ بن جبل.
وفي الختام أقول إنه لا يزهد في أمر الدعوة إلى الله إلا من ضمرت في قلبه معاني حب الله والحب في الله، ومن لم يتشوف إلى تلك المراقي السنية من المحبة التي تبعثه على الانخراط في سلك الداعين إلى الله المنافحين عن دين الله في صف جند الله، ينقش اسمه بمداد المحبة في أفواج السرج المنيرة من الداعين إلى الله بإذنه، فليجدد العزم وليصحح القصد وليدع المولى الكريم تذللا وإلحاحا أن يستعمله في دعوته. والحمد لله رب العالمين.