3) حركته الدعوية زمن انتمائه للزاوية
3-أ) اليقظة القلبية
عند بلوغ الإمام رحمه الله تعالى الثامنة والثلاثين من عمره، التحق بالزاوية البوتشيشية القادرية على قدر… وردها بعد “أزمة روحية” هزت كيانه كله وغيرت مسار حياته، أزمة اشتد به خلالها الأسى وعاف نفسه. يقول رحمه الله تعالى: “ولما أذِن الله عز وجل شأنه بعتق رقبتي من الجهل والإسلام الموروث المجهول إلى طريق الحق والحياة، أنهضني لطلب معرفته. وكانت أزمة روحية لم يستطع من يعرفونني أن يميزوا بينها وبين الأزمات النفسية المرضية” 1
أقبل الإمام على الزاوية بعد أن أضناه البحث عما يطفئ لهفه ويروي ظمأه، جاءها صادق الطلب، راجيا أغلى ما يطلب، فوجد عند شيخها الحاج العباس رحمه الله عز وجل، مبتغاه وأجوبةً لـما قضى قسطاً من حياته يطلبه… معرفة الله عز وجل…
قال رحمه الله تعالى عن لقائه الأول بالشيخ العباس: “…أعتبر أن لقائي به كان ميلادي الحقيقي بعد الميلاد الجسمي…” 2، و”انتقلت من حالة الغفلة الدوابية إلى حالة يقظة وذكر …” 3، و”…حصل لي انقلاب كلي…” 4.
ولازم الإمام الشيخ العباس، وقام بخدمته، واجتهد في الدعوة إليه، وسافر في صحبته معرفا به وداعيا ومحببا.
3-ب) “يا الله بنا نصور عشانا” (“هيا بنا نبحث عن عشائنا”)…
بهذه الكلمة المعبرة كان الإمام يدعو صاحبه للانطلاق لدعوة الناس إلى مأدبة الشيخ العباس رحمه الله عز وجل…
كانت الزاوية البوتشيشية يوم التحق بها الإمام عبارةً عن حفنة من الناس، بسطاء متواضعين، أغلبهم فلاحون وبناؤون وحرفيون… كان حالها حال باقي الزوايا بالمغرب؛ هجرها الناس والشباب والمتعلمون على الخصوص…
ولما تعرف الإمام على الشيخ العباس رحمه الله وتشرب من هذا القلب العارف المنور، تفانى في نشر دعوته ودلالة الناس على ما هو به فرح سعيد، ونادى فيهم “من كان يريد معرفة الله عزّ وجل وسلوك الطريق إليه فها هو شيخ عارف بالله، ينصحك ويأخذ بيدك، فمدّ يدك وضعها في يديه”…
يقول الإمام رحمه الله تعالى: “كانت نيتي -لما علمت من أن ذلك الرجل المنور القلب يمكن أن يكون يعسوبا لتربية أجيال من المؤمنين الصالحين- كان همي أن آخذ ذاك النبع المجسد في الشيخ ذاك القلب الطاهر، إلى معرض عام ليستفيد منه الخاص والعام. فكنت أحدث نفسي أن أكون جنديا لهذا الرجل المبارك.” 5.
واتصل رحمه الله بكل من يعرف من أطر البلاد، وهو من هو يومها مكانةً وصيتا في أوساط المثقفين، يطرق أبواب بيوتهم، ويزورهم بمقرات عملهم، ليبلغهم خبر اليقين؛ خبر الصحبة الصالحة المنهضة…
يحكي الدكتور يونس توفيق عن أبيه أن الإمام: “كان في العطل، يأخذ الشيخ العباس بسيارته، ويطوف به البلاد كلّها، لنشر الطريقة” 6
ويقول عنه محمد السعيدي الركراكي: “كان ياسين رجلا يحب الخير للناس، فعندما انخرط في الطريقة البوتشيشية المعروفة، أبى إلا أن يشترك معه في الخير كلّ معارفه وتلامذته، وكنت من بينهم” 7…
ويقول الأستاذ محمد العلوي الطالبي 8 رحمه الله عز وجل: “دخلت إلى الطريقة عن طريق سيدي عبد السلام، وقد كان هو من أدخلها إلى مراكش” 9.
ويقول القاضي عبد العزيز توفيق: “كان يحبب إلينا الدين بما هو دين، لا بما هو مختزل في الطريقة البوتشيشية. وكان يتحدث عن فضل الطريقة وفضل الحاج العباس في إخراجه من الأزمة التي عاشها.” 10.
ويحكي ذ. نوبير الأموي 11 عن لقائه بالإمام رحمهما الله عز وجل: “اتصلت به مرة أخرى سنة 1970، وتناقشت معه زهاء سبع ساعات وجها لوجه… وقد دعا الله أن يرعاني ويهديني إلى طريق الحق، ومنحني كتابا صوفيا مصريا، حيث طلب مني قراءته…” 12.
ولم يكن رحمه الله يأبه بردود فعل البعض واستهزائهم، لم يفت ذلك في عضده ولم يصرفه عن تبليغ رسالته… يقول في رسالة له إلى الأستاذ محمد شفيق: “لا أزال أذكر جلسة لنا مع صاحبك الدكتور بنيحيى، أوْسَعتُماني فيها تنكيتا وأنا أزعم لكما أنني عثرت على شيخ جعل الله على يده هداية الخلق. كانت «الخرافية » الصوفية وجها لوجه مع «العقلانية» الشمولية الشاكة الجاهرةِ بشكها واستخفافها بالشعوذة والمشعوذين… إن كنتُ أخبرتك، فيمن أخبرت، بعثوري على عارف بالله اتخذته إماما فالحامل لي على ذلك حرصي أن يسمعني الناس، كان حُسباني أنها بُشرى فذة، وأن الناس سواسية في تقدير قدر العارفين بالله، متقاربونَ من حيث الظمأُ إلى الحقيقة الوجودية الكبرى. ما كل الناس يريد أن يعرف، ويصبر حتى يعرف” 13.
وهكذا عرفت الزاوية البوتشيشية انبعاثا وانتشارا واسعا وفي كلّ مناطق البلاد ونواحيها، وأقبل عليها الناس بسطاء ومتعلمون، وصار لها إشعاع كـبـيـر وأتـبــاع من كـلّ فئات المجتمع… كان للإمام رحمه اليد الطولى والدور الأساس في هذا الانبعاث والانتشار.
[2] “حوار شامل مع الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين”، منير ركراكي وعبد الكريم العلمي.
[3] “الإسلام بين الدعوة والدولة”، ص 391.
[4] “من كلمة للإمام في زيارة له لمدينة وجدة”، سنة 2001.
[5] “حوار شامل مع الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين”، منير ركراكي وعبد الكريم العلمي.
[6] “عبد السلام ياسين، الامام المجدد”، محمد العربي أبو حزم، ج1، ص 236.
[7] “عبد السلام ياسين، الامام المجدد”، محمد العربي أبو حزم، ج1، ص 245.
[8] مندوب إقليمي لوزارة التربية الوطنية، ومفتش بها.
[9] “عبد السلام ياسين، الامام المجدد”، محمد العربي أبو حزم، ج1، ص 239.
[10] “عبد السلام ياسين، الامام المجدد”، محمد العربي أبو حزم، ج1، ص 244.
[11] مسؤول بالحزب الاشتراكي ومؤسس نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
[12] “عن قرب: حوارات مع نوبير الأموي”، ص 95، منشورات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، مارس 2001.
[13] “حوار مع صديق أمازيغي”، ص 32، مطبوعات الأفق، سنة 1997.