“الدعوة مهنتنا” (الشورى والديمقراطية، 234) 1، هذه من أهم وأسمى التوصيفات التي أسبغها الإمام عبد السلام ياسين على فعله التربوي والنظري والميداني. لذلك كان حرصه على إحداث التمايز بين العمل الدعوي والعمل السياسي، على اعتبار أن “السياسة لها إرادة ولا تربية. والدعوة طموحٌ إلى ما عند الله، وإلى مقعدِ صدقٍ عند الله” (حوار الماضي والمستقبل، 71).
ينحصر هم السياسي الحر النزيه في تحقيق الرفاه والتنمية والتقدم للأمة في هذه الدنيا، أما الداعية الصادق فهو “حامل رسالة قبل كل شيء وبعد كل شيء. مُبلغٌ تكاد نفسه تذهب حسرات على ضياع الإنسان. يؤرقه هَمُّ كفر من كفر ونفاق من نافق وتهافت من تهافت في معصية الله بقدر ما يؤرقه مصيرُ أمته المحرومة المنهوبة المتخلفة” (العدل: الإسلاميون والحكم، 373). فما ماهية الدعوة عند الإمام عبد السلام ياسين؟ وما قصده بتنهيج الدعوة وهي في حركيتها في واقع مغاير لعهد النبوة؟
نستنطق في ذلك مكتوبات الإمام، ونتركها تتحدث عن ذاتها، ونكون فهما لها من بنيتها، على أمل وضع دراسة أوسع تتسع بالتحليل، والوضع في السياق، والمقارنة، وإعادة التركيب.
1. ماهية الدعوة
في رأس قائمة الأعمال الإحسانية المحبوبة عند الله المفضلة، لا أفضل منها، الدعوةُ إلى الله. قال الله عز وجل: وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ (فصلت: 33). وذلك لأن الدعوة من وظائف النبوة المستأنفة، مع الوعي باختلاف مراتب الدعوة ومستوياتها، وشرط الربانية فيها، وكونها دعوة لكل إنسان بمعزل عن عرقه، أو جنسه، أو لغته، أو لونه، أو طبقته الاجتماعية.
أ- الدعوة من وظائف النبوة المستأنفة
تعد الدعوة إلى الله تعالى من وظائف النبوة المستأنفة على امتداد التاريخ البشري، فالله عز وجل إنما بعث رسله عليهم السلام “لهداية الخلق إلى طريق مستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وهو صراط السعادة الأبدية: وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ (الأنبياء: 107) آية نفي وإثبات تؤكد الجانب الدعويَّ. آية يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا (الأحزاب: 45-46) تبين أن النبوءةَ الرحمةَ دعوة مبشرة بحقائق الآخرة منذرة منها قبل كل اعتبار، قبل كل نظام” (العدل، 73).
إن الدعوة نداء إلى الاستجابة إلى الله عز وجل، وهي انتساب ممتد لا يتوقف عبر التاريخ إلى “موكب النبيئين والشهداء والصالحين منذ آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام حين ينـزل بالعدل والإسلام. ينبغي أن نرفع الدعوة إلى الله، ونربطها بحلقات السلسلة النورانية من رجال الدعوة إلى الله الذين دانوا الله بالإسلام، لا فرق في ذلك بين آدم وإبراهيم الذي سمانا مسلمين، ومحمد الأمين عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام”. (دعوة إلى الله، مجلة الجماعة، العدد 2/13).
ب- الدعوة دعوة إلى الله
كان الرسول صلى الله عليه وسلم داعيا إلى الله بإذنه، والوراثة الكاملة للنبوة من شروطها استمرارية الدعوة إلى الله تعالى. والدعوة إلى الله هي غير الدعوة إلى الإسلام؛ وإن كانت الدعوة إلى الإسلام هي بداية الطريق إلى الدعوة إلى الله؛ إلا أن الدعوة إلى الله عز وجل لا يستطيعها إلا العالم بشرع الله، العارف بالله سبحانه وتعالى.
لذلك مايز الإمام رحمه الله بين مراتب الدعوة، وجعل الدعوة إلى الله الأسمى مرتبة، والأعلى مقاما، والأرقى منزلة. كتب في ذلك موضحا: “إن الدعوة إلى الله عز وجل هي لبُّ الأمر كله، هي وراثة النبوَّة. والدعوة إلى الله غير الدعوة إلى الإسلام وإن كانت الدعوة إلى الإسلام بدايتها. وهي غير الدعوة للحل الإسلاميِّ في الحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وإن كان الحل الإسلاميُّ والجهاد لفرضه ونصرته بعضَ مُهماتِها، حين تكون دعوةً على المنهاج النبويِّ، وحين يكون الدعاةُ ورثةً جامعين. وهي غيرُ الدعوة إلى الإيمان وحلاوته، والذكر وتلاوته، والروحانية وكرامتِها، وإن كان كل ذلك بعضَ خصائصها” (إمامة الأمة، 113-114).
ج- الدعوة دعوة ربانية
تقتضي الربانية التجرد من الحول والقوة متابعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته. كما تقتضي نسبة ما يمن به الله على رجال الدعوة ونسائها من خير إلى الله وحده. لذلك تظل الدعوة إلى الله مشروطة بالسلوك الرباني، والسلوك من معانيه أن الطريق عقبة ضيقة فيها منعرجات وهو ما لا يستطيع اقتحامه إلا “المجاهد على بصيرة، فإن لم يكن المجاهد ربانيا فسمه إن شئت مناضلا ولن تأتيك منه حياة إسلامية، ولن تكون حركيته حركية إسلامية حتى ولو حمل شعارات الإسلام” (الإسلام غدا، 200).
تحمل الربانية “معنييْن اثنين: أولهما الانتساب إلى الرب جلت عظمته، والثاني انتساب إلى التربية” (الإسلام غدا، 186) لذلك يعد الرباني قائم بالله، يعطي لله، ويمنع لله. يحب في الله، ويبغض في الله. فهو لله وبالله ومع الله وإلى الله، ومقصد كل ذلك أن كل أعماله لله تعالى: قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ (الأنعام: 162-163). فالرباني دائم المراقبة لله تعالى، دائم الاستغراق في ذكره، وبذلك تتعارض الربانية مع حظوظ النفس، والكبر، والأنانية، وحب الرئاسة. وكل ذلك شرط لتنسب الدعوة إلى الله عز وجل، وحتى يتحقق للعمل الإسلامي بكونه “دعوة إلهية نبوية تثير القاعد والمتردي ليقتحم العقبة” (الإسلام غدا، 24).
د- الدعوة دعوة للإنسانية
من المقدمات البدهية عند كل مسلم ومسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلى قوم دون آخرين، أو طبقة دون غيرها، أو أمة دون أخرى، بل بعث إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا.
تضاف إلى هذه المقدمة البدهية مقدمة أخرى تنطلق من أن الدين عند الله دين واحد هو الإسلام، وأن الأنبياء جميعهم مرسلين من الله عز وجل وإن اختلفت شرائعهم بما يتناسب وسياق دعوتهم.
تضاف إلى هاتين المقدمتين مقدمة ثالثة بدهية تؤكد على وحدة الرحم الإنسانية، امتثالا لقوله تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا (النساء: 1).
إن كل ذلك يلقي بمسؤوليات عظمى على كل دعوة صادقة أمام قوله تعالى: “تَسَّاءلون: تُسْألون عن الرحِمِ الآدمية هل أديتم حقها. في مقدمة حقها البلاغ والبيان والشهادة بالسلوك النموذجي والإحسان، والجهاد الدائم لكشف عوائق الظلم حتَّى يسمَع الناس جميعا كلام الله تعالى” (العدل: 358).
إن التحدي المستقبلي الثقيل في حق الدعوة هو حمل الرسالة لعالم يغرق في العنف والخراب، وصناعة البؤس والدمار، وهو ما يجعل الإنسانية تنتظر نموذجا يمنح للإنسان معنى لوجوده، وغاية لحياته وموته. وإنما بيان ذلك كله في كتاب الله عز وجل، “والقرآن خطاب موجه للإنسان كيفما كان جنسُه وزمانُه ومكانُه. إن الإسلام دعوة عالميَّةٌ، وإنَّ حاملي الرسالةِ طلائعُ الحقِّ لا ينتهي واجبُهم بإقامة دولة القرآن في دار الإسلام الموروثة، بل تبدأ بعد قيامها رحلةُ تبليغ الرسالة للعالمين” (إمامة الأمة، 233).
يعجز عن حمل الرسالة غثاء السيل العالة على الناس كما هو حال المسلمين اليوم، وإلا “ما يفعل قوم نساجون ماهرون إلا أن يسخروا من عريان يأتيهم لينتقد آلات نسجهم، وألوان أثوابهم، ومصادر قطنهم، واقتصاد معاملهم. اكْسُ نفسك من عريها أولا وتعال نتناقش” (محنة العقل المسلم، 85). لذلك إن كانت الدعوة عالمية لا تقف على حدود الدول فإنما المقدمة الشرطية للتحقق بذلك إنما هو قيام نموذج ناجح يتمثل قيمها، فتكون دولة الدعوة حينها “نموذجاً شاهداً في العالم على تفوق الإسـلام، وصلاح الإسـلام، وكون الإسلام المخرج الوحيد للعالم من العنف والخراب الذري، ومن بؤس الإنسان، ومن ظلم الإنسان” (الإسلام أو الطوفان، 146).
2. تنهيج الدعوة
إذا كانت الدعوة إلى الله في رأس قائمة الأعمال الإحسانية المحبوية عند الله المفضلة، فإن من المؤكد أن أسلوب الدعوة ووسائلها يختلف حسب الزمان والمكان والسياق، وهذه المتغيرات التي تلحق الشروط الموضوعية المحيطة بالدعوة هي المقصودة بسؤال تنهيج الدعوة.
أ. الدعوة عن علم بلا وصاية
لا معنى للدعوة إلا أن تبنى على علم، والعلم مفهوم شامل لا يكتمل إلا بعرفانية أرباب التربية، وفقه أهل العلوم الشرعية، وخبرات ذوي المعارف الإنسانية. وهو ما أجمله الأستاذ ياسين في قوله: “العلم ما قربنا إلى الله، وما بصرنا بمصيرنا إلى الله، وما دلَّنا على واجباتنا من قِبَل الله، وما رسَّخ خطانا اتباعا واحتراما لسنة رسول الله. ثم العلم والفقه في أصول الدين وفروع العبادات. ثم العلوم الآلية الضرورية في الحياة مما أنتجته العقول، ورتبته تجربة الإنسان، واكتسبه الجادّون في نُشدان الحكمة، أنى وجدوها فهم أحق بها” (رسالة تذكير، 20-21).
إن سند الدعوة علماء لا يخذلهم عن التبليغ قلة زادهم المعرفي، ولا يقعد بهم عن التبيين جبن إرادتهم، لذلك فإن أشد ما تكون حاجة الدعوة إلى “علماء متمكنين شجعانا متئدين متسامحين ورعين، لا يقعُد بهم الجُبْن أمام الجائرين عن الجهر بالحق إِبّانَ المحنة، ولا تستَفزُّهم الرئاسةُ بعد النصر عن التزام الورَع، ولا يتجرَّأون على الفتوى بغير عِلم، لأن الجرأة الجاهلة عليها تقحُّمٌ في النار كما جاء في الخبر” (الإحسان، 2/287).
لا تظل الدعوة دعوى مجردة محلقة بعيدة عن عالم الناس، بل هي واقع يتجسد في تنظيمات إسلامية ترشح نفسها لتكون غاياتها في خدمة الدين، ووسائلها بما يوافق الشرع. وما ينبغي أن يستقر عليه وعي كل فئة دعوية أن اجتهادها يلحقه الصواب والخطأ، “أما أن يزْعُم أحد أن نطقَه هو كلمة الدين، لا دين لمن خالفه ولَوْ في غير ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فهو تنبّؤ ودجَل” (الإحسان، 2/290). وهو ما يفتح الباب أمام تعدد التنظيمات الدعوية التي تتعاون فيما يتم الاتفاق عليه، ويعذر بعضها بعضا فيما يقع فيه الاختلاف، وتكون القاعدة في ذلك أنه “ما لأحَدٍ على أحَدٍ وصايةٌ في الدين، وما لأحَدٍ أن يدَّعي احتكارَ الإسلام، فإن فعَل فقد استكْبَر ورشَّحَ نفسَه لهَبَالِ العالينَ من الشياطين” (حوار الماضي والمستقبل، 266).
ب. الدعوة دعوة إلى جهاد منظم
طريق الدعوة إلى الله لم تكن في يوم من الأيام طريقا مفروشة بالورود، بل يصد عنها أعداء الله من كل صنف وبكل وسيلة، لذلك يظل نجاح الدعوة مشروطا بالوصال بين التربية الزكية للمؤمن والمؤمنة والفاعلية الجهادية، فتتخذ الدعوة عندها معنى ثنائيا: “الدعوة نداء إلى الاستجابة لله. والدعوة نداء إلى جهاد تُنفق فيه جهودك، وتسهر فيه لياليك وعهودك، وتحطم به قيودك” (الشورى والديمقراطية: 116).
لا ينبغي حصر الدعوة إلى الله بكونها مهمة فردية تبحث عن خلاص فردي، ذلك أنه رغم أهمية هذه الدعوة فإن أثرها يظل دون الفاعلية التاريخية المطلوبة، كما يقصر أساسا عن الاقتداء بالتجربة النبوية وامتداداتها مع الآل والصحب الكرام. وتلك المدرسة السلوكية النبوية المنهاجية الجهادية منها تتعلم قلوبنا “الإيمان، كما نتعلم من سلوكهم الجهادي نماذج العمل الصالح” (الإسلام غدا، 123). لذلك يبحث المؤمن كما “تبحث المؤمنة عن جماعة المؤمنات يجمعهن حب الله وحب رسول الله، تجمعهن رابطة القلب كما تجمعهن رابطة الفكر. تجمعهن رابطة العمل الجهادي كما تجمعهن رابطة العِلم الجهادي” (تنوير المؤمنات، 2/39).
وبهذا السلوك الجهادي المزدوج تكتسي الدعوة بالنور الرباني، وبهذه النورانية تمشي الدعوة في الناس ليحيي بها الله القلوب الميتة. قال تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (الأنعام: 122). فهذا النور يغشى القلب فيورثه الرحمة، ويغشى العقل فيورثه الحكمة، ويسري في الجوارح فيدفعها إلى العمل والبذل بلا كلل أو ملل أو منة، وبدون هذا النور الرباني تتحول الدعوة إلى مجرد دعاية شكلية لا تجد أذنا صاغية.
ج. الدعوة من فتنة لا من جاهلية
لا يستقيم شرعا تقسيم مجتمع المسلمين إلى فسطاطين: فسطاط إيمان وفسطاط كفر، حزب الله وحزب الشيطان، إذ إن المعصية دركات بنص القرآن، قال تعالى: وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ يُطِيعُكُمۡ فِي كَثِيرٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡيَانَۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّٰشِدُونَ (الحجرات: 7). فالكفر أشدُّها، والفسوق دونه، والعصيان أخف. كما أن الطاعة منازل ودرجات، فالإيمان يزيد وينقص، وقد يدعي المرء الإيمان ولما يتجاوز مرتبة الإسلام كما حكى الله عز وجل عن الأعراب: قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ (الحجرات: 14). وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الدين إسلام وإيمان وإحسان، فالدين مقامات يرفع الله إليها من شاء من عباده.
لذلك يعترض الأستاذ عبد السلام ياسين أشد الاعتراض على توصيف الأمة بكونها تعيش مرحلة الجاهلية، فهذا تشخيص له من المآلات العنيفة ما اكتوت مجتمعات عدة من آثاره المدمرة، لذلك إنما تتحرك الدعوة وسط مجتمع مفتون مع ما يستدعيه التوصيف النبوي من معاني الحكمة والرحمة والرفق والتؤدة. كتب مؤكدا على ذلك: “ونحن نفضل استعمال كلمة “فتنة” لوصف مجتمعاتنا، فهي كلمة نبوية، وفي كتب الحديث فصول خصصت لذكر ما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نشوء فتن واضطرابات في الأمة. ما ذكر أنها تُخرج الأمة عن إسلامها. إنما هي أمراض، بعضها أخطر من بعض، والزيال الواجب لها ليس في الانسحاب والاستعداد لنسفها، لكن في معالجة الفتنة لنقضي على الفتنة لا على الناس” (المنهاج النبوي، 284).
د. الدعوة وأولوية المسألة الاجتماعية
لا تنفصل الدعوة عن هموم الناس بل تتجاوب مع الهم اليومي للمحرومين، وتؤيد مطالب المظلومين، لذلك لا تقايض الدعوة الآخرة بالدنيا بل تقدم معادلة يكون فيه كمال العبودية لله عز وجل مبني على تحقق الإطعام من جوع، والأمن من خوف. وقد قال الله سبحانه وتعالى مخاطبا الأمة المحمدية يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ. تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ. يَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ وَيُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّٰتِ عَدۡنٖۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ. وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحٞ قَرِيبٞۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (الصف: 10-13)، “وجعل سبحانه من الأصناف الثمانية الذين يجوز أن تُعطاهم الزكاة المؤلفة قلوبُهم الحديثي عهد بالإسلام، يُعطاهم من متاع الدنيا ليثبتوا على الدين. هذه أدلة على أن الدعوة إلى الإسلام من أصولها تبشيرُ المؤمنين «بالأخرى» التي يحبونها، وإعطاء المسلمين الجدُد ليثبتوا، ومخاطبةُ الخارجين عن الدائرة من الجهة الحسَّاسة في حياتهم، جهة الأرزاق” (الإحسان، 2/146).
ليست الدعوة إذن وعظا منفصلا عن واقع الناس، ولو كانت كذلك لما كانت سوى دروشة يتبعها فئات من الناس مكفية في أرزاقها، لذلك وجب “تنهيج الدعوة” الذي من معانيه “أن نؤكد على المسألة الاجتماعية، ونجعلها من صلب المنهاج وأسسه، لكيلا لا نبقى في أخلاقيات الصدقة والبر التي بمقتضاها يتفضل زيد ببناء مأوى للعجزة، وعمرو بإطعام مائة مسكين يوم الجمعة. يجب أن يصبح التحريض الإلهي على تحرير الإنسان وإطعامه برنامجا في زحفنا، وعنصرا أساسيا في تربيتنا” (الإسلام وتحدي الماركسية، 35).
إن من معاني تنهيج الدعوة التي ينبغي الإصرار على تبيانها هو “أن نتدرج بالإنسان من موقعه الإنساني، من ظروفه المادية، من تعبه اليومي وكبده، من هم المأوى والرزق والأمن والضروريات، ليطمئن إلى أن الإسلام وعد بفك الرقاب، أي بتحرير الإنسان من كل عبودية تحقره ولا تكرمه، وعد بإطعام الجائع، بالقضاء على البؤس، بالإنصاف، بالقسمة العادلة للرزق” (الإسلام وتحدي الماركسية، 18).
هذه بعض دلالات مفهوم الدعوة وعناوينها الكبرى، وهي متعالية عن أي وقت، فلا يمكن تنسيبها بسياق أو زمان أو مكان، ومع ذلك فإن من الملاحظات العجيبة التي لا يمكن أن تغيب عن أي باحث مدقق في مكتوبات الإمام رحمه الله أن الدعوة تستغني بمعاني ودلالات أخرى عندما تدمج مع مفهوم الدولة، وهو ما ينبغي التنبه إليه عند الاشتغال على مفهوم “الدعوة والدولة” في مكتوبات الإمام رحمه الله تعالى.