من الموافقات الكبرى والإشارات العظمى أن تتزامن الذكرى الخمسون لرسالة “الإسلام أو الطوفان” مع ذكرى المولد النبوي الشريف، مولد خير البرية سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دأب الناس -أفرادا ومؤسسات- على الاحتفال بما يصطلح عليه في القاموس الإنجليزي بـ”اليوبيل الذهبي” أو “الذكرى الخمسون” في القاموس العربي، من أجل إبراز أهمية حدث ما حتى يصبح موسوما في ذاكرة الأجيال، بعيدا عن النسيان، وتذكيرا بمرماه، خاصة وأن دورة التاريخ المعاصر مليئة بالأحداث، التافه منها أكثر من الحازم، والمفتعلة أكثر ضجيجا من غيرها…
50 سنة مرت على حدث عظيم في التاريخ المعاصر: رسالة الإسلام أو الطوفان، رسالة مفتوحة لملك المغرب.
كتبها الإمام عبد السلام ياسين إلى الملك الحسن الثاني، وطبعها ووزعها أحمد الملاخ ومحمد العلوي السليماني رحمهم الله.
هذه الرسالة الخالدة، رأت النور عام 1394 هـ الموافق لـ17 شتنبر 1974م. قوتها تكمن في زمن خروجها للأمة زمن الخوف والتهديد والترهيب.
ولفهم مرمى الرسالة، لا بد من التعرف على المرسل والمرسل إليه، ومعرفة ظروف الإرسال. كل ذلك يمكن الأجيال اللاحقة التي لا تعرف مرحلة السبعينات أن تدرك عمق الرسالة. فذاكرة الشعوب سريعة النسيان، والقذف والافتراء والإشاعات المغرضة تشوش على مضمون الرسالة، وعدم معرفة إحدى حلقات الحدث تقزمه أو تلغيه. لذا وجب التوضيح والتبيان، خاصة ممن عاش الحدث وعانى من تبعاته.
المرسل: عبد السلام ياسين، رحمه الله، يعرف نفسه بنفسه: “أنا عبد الله المذنب ابن فلاح بربري نشأ في القلة والحرمان المادي، ثم قرأت القرآن فهو كان بحمد الله ولا يزال قراءتي الحقيقية الوحيدة. ودرست تلميذاً لعلمائنا في المعهد الديني. ولم ألبث أن طلبتُ معرفة أوسع من النقول التي تعيش عليها معاهدنا الدينية. فدخلت إلى الثقافة الأجنبية من المدخل الصعب، من المجهود الفردي، حتى نلت منها ما جعل أقراني يضعونني موضع الشاب النابغ. وجاء الاستقلال فوجدني في منصب مسؤولية إقليمية في التعليم. فعاصرت الأقدمين يافعاً، وعاصرت نشأة الفساد الإداري في مراحله كلها منذ الاستقلال. فإن تحدثت عن العلماء فعن معرفة ومخالطة ومشاركة، وإن تحدثت عن المغرب وشبابه ورجاله وإدارته فعن خبرة سبع وعشرين سنة كنت فيها معلماً، وإدارياً، وخبيراً”.
كما أن ياسين عرض على الملإ، دون خشية التصنيف من كل وجهات النظر السائدة المتضاربة ببلادنا، تجربته الشخصية وحقيقة “ميلاده الروحي” وعتق رقبته من الإسلام الموروث المجهول إلى طريق الحق والحياة، يقول ياسين: “وأذكر نعمة الله علي في الملإ لأنه وهبني بعد وفاة شيخي منذ ثلاث سنوات ما يقصده المريدون من الصحبة”.
“الإسلام أو الطوفان”: رسالة حدث قوي، تتجلى قوته في ثلاثة عناصر: المرسل- المرسل إليه- الرسالة. أما ما يزيد هذه القوة تميزا هو “ظرف الرسالة”، وما يزيدها توهجا هو “صدق المرسل”، وما يزيد هذه القوة شدة هو “تصديق الصاحب”.
تصديق الصاحب
الصاحب، رجلان أسماهما ياسين بعد رحيلهما “الأحمدين”، وهما الجبلان الشامخان: الأستاذ الصابر أحمد الملاخ والأستاذ المجاهد محمد العلوي السليماني. رجلان ركبا السفينة مع الإمام القائد، دون تردد أو تباطؤ أو خشية من طوفان بحر، دعيا لركوبه، ولبّيا داعي الله: “يا بني اركب معنا”، علما أن الظرف عصيب والمؤازر يكاد ينعدم، ومن يفهم الرسالة قليل، وحتى من فهم الرسالة وأخضعها لميزان العقل بدت له تهورا و”أحلاما دونكيشوطية”!
الأستاذ المجاهد محمد العلوي السليماني، رحمه الله، كان يبلغ 43 سنة، كان مديرا لمدرسة الإمام الجزولي بمراكش -حيث طبعت الرسالة بوسائل تقليدية-. كانت وضعيته الاجتماعية مستقرة، وكان أبا لخمسة أبناء في زهرة عمرهم. رجل محب لياسين، ثقته به لا متناهية.
الأستاذ الصابر أحمد الملاخ، رحمه الله، كان يبلغ 33 سنة، كان أستاذا للغة الفرنسية بثانوية أبي العباس السبتي بمراكش. اختار طريقا يصعب على أي شاب السعي فيه، خاصة وأنه كان على مشارف مناقشة الدكتوراه حول تاريخ الزوايا بالمغرب بجامعة السوربون بباريس بإشراف الدكتور محمد أركون. أب لخمسة أطفال -كبيرهم عشر سنوات- وترك زوجا حاملا. لكن الشاب المحب لم يلتفت عن ياسين.
انخرط الأحمدان في المشروع الجديد، وحملا مع ياسين المشعل صدقا وتصديقا. فكانت محنة الاعتقال متبوعة بمنحة الصحبة الصالحة.
خمسة عشر شهرا في الدهاليز المظلمة لانتزاع اعترافات؛ فترة عصيبة على الشيخين، كما ذكر ذلك عبد القادر الشاوي في كتابه: “كان وأخواتها”. في عتمة ظلمة بالليل والنهار، معصوبي العينين ومكبلي اليدين، في مساحة مترين مربعين وتغذية رديئة جدا، وظروف صحية قاسية، خاصة وأن محمد العلوي كان يعاني من أزمات ربو حادة، وأحمد الملاخ كان يعاني من داء السكري يدخله في غيبوبات طويلة المدى نتج عنها نزيف دماغي وضعف شديد في البصر.
ذكر محمد المانوزي في شهادته في حق رفاق الاعتقال: “ذهبت عند العلوي والملاخ في فترة عزمت الدولة طي صفحة الماضي والتي يصطلح عليها بسنوات الرصاص، وذلك من أجل تعبئة مطبوع التعويضات، فكان جوابهما ما يلي: انخراطنا في رسالة الإسلام أو الطوفان مع السيد عبد السلام، وما أعقب ذلك من محنة الاعتقال ومضاعفة حدة المرض… كان منحة ربانية عظيمة فيها ما لا تدركه الأبصار ولا العقول، فلا مجال للمقارنة بين تعويض الفاني مع تعويض الباقي، تجارتنا كانت ومازالت مع الله ونسأل الله أن تبقى مع الله…».
الرسالة الخالدة
رسالة الإسلام أو الطوفان ليست ككل الرسائل، خاصة وأن ملوك وأمراء عالمنا الإسلامي اعتادوا على فتح بريد لا تصل فيه إلا رسائل التبجيل والتمجيد. حرص ياسين، رحمه الله، أن تقع رسالته بين يدي الأمة -العلماء والنخب السياسية والمثقفون وعامة الشعب- قبل أن تصل إلى من يهمه الأمر.
“الإسلام أو الطوفان”: حدث عظيم عرفه التاريخ المعاصر، لكن عددا من المؤرخين يحاولون القفز على هذه المرحلة من تاريخ المغرب. أما من يذكر الحدث منهم، يذكره باحتشام وبصوت خافت، ويقدم الرسالة على شكل صورة باهتة قاتمة اللون في زواياها، لا يستطيع المرء اكتشاف أبعادها وعمق مضمونها. يؤدي ذلك إلى جهل المنطلق الذي يرتكز على النصيحة ومن ثَمَّ عدم إدراك الغاية التي تنشد بناء مجتمع العمران الأخوي.
عندما نقف اليوم مع رسالة “الإسلام أو الطوفان”، بعد رحيل كاتبها ومن طبعها بعد مرور نصف قرن، ليس من أجل الترف الفكري والمعرفي، أو من أجل تسجيل اسم الصاحب والمصحوب في سجل عظماء التاريخ، وإنما لنتذكر الحدث العظيم من أجل:
1. إبراز المنعطفات التاريخية في حياة الرجال.
2. فهم الحدث وتسليط الأضواء على المستقبل.
3. تنوير الأجيال التي تأتي بعده، ببعد نظرته المنهاجية التي تطورت من الخلاص الفردي إلى الخلاص الجماعي.
4. استيعاب مشروع المنهاج النبوي لبناء دولة القرآن، الذي كان كلمة فدعوة وتربية وتنظيما وزحفا.