مقدمة
يستمد الحديث عن مفهوم الذكر وخصائصه في الهدي النبوي أهميته ويثبت جدوى الاعتناء به، من كونه يبين لنا المعنى القرآني النبوي للذكر، ويعرفنا بأبوابه المختلفة ووجوهه المتنوعة، ويكشف لنا درك مقاصده المرجوة، فلا يستقيم في هذا المقام فهمنا للذكر المنصوص عليه في كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، إلا بالرجوع إلى منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية وتعليم أصحابه رضي الله عنهم، فمن محرابه النبوي نتعلم ونستقي معاني الذكر وغيره، وبهذه التلمذة للسنة النبوية المشرفة وما كان عليه الصحابة الكرام في أحوالهم المختلفة، نفقه خصائص الذكر وسماته، ونتملّك الميزان الشرعي الذي ننخل به اجتهاد المدارس التربوية التي عنيت بالكيان الباطني الروحي للإنسان بعد الخلافة الراشدة إلى اليوم، إذ بمقتضى ذلك الميزان نستطيع التمييز بين الاجتهاد التربوي الصحيح من غيره.
قبل الحديث عن القصد الأساس من كتابة هذه الأسطر وهو بيان خصائص الذكر في زمن النبوة لا بأس من الإلماع بأن الذكر في كتاب الله تعالى يأتي في أغلب المواضع مقرونا بالكثرة، قال تعالى مخاطبًا سيدنا زكريا عليه السلام وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (آل عمران: 41) وقال سبحانه عن سيدنا موسى عليه السلام كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (طه: 33 ـ 34) وقال سبحانه ممتدحًا لبيوت الله وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا (الحج: 40) وقال عن المؤمنين إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا (الشعراء: 227) وقال كذلك في مدح المؤمنين لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21] وقال سبحانه وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (الأحزاب: 35) وقال في الجمعة وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الجمعة: 10)، كما يرد الذّكر فِي كلام الله جل وعلا على أوجه كثيرة، منها: الذّكر بِاللِّسَانِ: وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الْبَقَرَة فاذكروا الله كذكركم آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا. والذّكر بِالْقَلْبِ: وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي آل عمرَان وَالَّذين إِذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم ذكرُوا الله فاستغفروا لذنوبهم والتَّوْحِيد: وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي طه وَمن أعرض عَن ذكري، وَفِي الزخرف وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن، والْوَحْي: وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الصافات: فالتاليات ذكرا والْقُرْآن: ومنه قوله تعالى في الأنبياء وَهَذَا ذكر مبارك أَنزَلْنَاهُ، فإذا كان الذكر بهذه الكثرة في كتاب الله تعالى ورودا ووجوها فما هي خصائصه في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
العنصر الأول: مفهوم الذكر
ينصرف ذهن كثير من الناس حين يسمع الحديث عن ذكر الله تعالى إلى تكرار أذكار معلومة معدودة في مناسبات ومواقيت مخصوصة؛ نحو الأذكار الواردة عقب الصلوات، وفي الصباح والمساء، وعند الدخول والخروج، وعلى الأذكار الواردة في الاستعاذة وغيرها كثير، وهذا الصنيع المبارك على عظمه وجزيل ثوابه لا يعدو أن يكون سوى وجه من وجوه الذكر…
تابع تتمة المقال على موقع ياسين نت.