مقدمة
تزخر السيرة النبوية بالعديد من الوقائع والمواقف والمشاهد والأحداث التي تمتد عطاءاتها عبر الزمن، لأنها تحمل في ثناياها دلالات ومعاني متجددة تسترشد بها الأمة وهي تشق طريقها نحو الخلاص؛ إن على المستوى الفردي أو الجماعة.
ولعل حادثة الإسراء والمعراج تحتاج منا إلى قراءة تجديدية، لنكتشف من خلالها الأبعاد الاستشرافية الحاضرة بقوة في هذه الرحلة المعجزة، على اعتبار أنها غنية بنبوءات غيبية تخبرنا عن حقائق مستقبلية نتلقاها بالقلب المطمئن و بالإرادة الفاعلة، لا بنفس الانهزامية والانتظارية المعطِّلة.
فها أهمية الرؤية الاستشرافية في نجاح أي مشروع تجديدي للأمة؟
وكيف يمكن لحادثة الإسراء والمعراج بكل تفاصيلها أن تشكل دافعا قويا وموجها لفعلنا الداعم والمناصر للقضية الفلسطينية؟ وما موقع المرأة في كل ما سبق؛ ماضيا وحاضرا ومستقبلا؟
1- أهمية الرؤية الاستشرافية في نجاح المشروع التحريري للأمة
لا شك أن من أهم مقومات نجاح أي مشروع تغييري يروم تحرير الإنسان والأوطان أن يمتلك رؤية مستقبلية، تكون عنصر دفع أساس، تستنهض بها الهمم، وتوجه بها الإرادات نحو الهدف المنشود، متخذة وجوبا كل الأسباب الممكنة ومغتنمة للفرص المتاحة. فقد أورد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى في فصل “الجرح الفلسطيني” من كتابه “الإسلام والحداثة” قول الفيلسوف اللاتيني “سينيكا”: “لا يمكن للمركب الذي يجهل وجهته أن يحسن استغلال الرياح المناسبة ” معقبا رحمه الله “فوعد الله هو المنار الذي يوجه إلى شاطئ الأمان ويدل على ما أنسب الرياح للإبحار، ويبقى علينا أن نُحسن استشراف الأفق، ونحذَر فخاخ الجزر القاتلة” (ص 27). فلا مناص للأمة اليوم، وقد هبت عليها رياح الانتكاسات فباتت تعاني من هزيمة نفسية لا علاج لها إلى بالتمسك باليقين الصادق بموعود الله ونصره.. ولعل إحياءنا لهذه الذكرى يسعف في هذا الأمر.
2- الإسراء والمعراج: الرحلة المعجزة الملهمة
تشكل حادثة الإسراء والمعراج منعطفا مهما في تاريخ الدعوة النبوية بالنظر إلى سياقها الزماني والمكاني من جهة، وعظم وقائعها ومشاهدها من جهة أخرى.
وقد ظلت كذلك عبر التاريخ حتى أضحت في وقتنا الحاضر منارة تؤصل للعمق الإيماني والعقائدي والديني للقضية الفلسطينية.
فرحلة الإسراء من مكة إلى فلسطين تؤكد ابتداء أنها أرض مباركة، وأنها أرض الملاحم، بحيث أنها ستشهد وقائع وأحداث مفصلية وحاسمة في تاريخ المسلمين، أهمها في موضوعنا: انهزام اليهود وزوال دولتهم .
ثم إن هبوطه صلى الله عليه وسلم بالمسجد الأقصى والتقاءه بالأنبياء السابقين، ومنهم أنبياء بني إسرائيل، وإمامته لهم في الصلاة، لهي إشارة واضحة على إسنادهم القيادة والوراثة والخلافة والعهد والمسؤولية للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده حتى قيام الساعة، في التمكين لهذه الأمة والدفاع عن حقوقها والذود عن مقدساتها، وعلى رأسها المسجد الأقصى وكل فلسطين.
فضلا عن أن الله على وجل قد جعل المسجد الأقصى بداية ومنطلق المعراج، وهو الجزء الثاني في الرحلة الخارقة؛ حيث عُرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلا، حيث تجلت أعظم المشاهد الغيبية.
لقد نعتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه أنها أرض المحشر والمنشر، ويكفي هذا وحده إبرازا للمكانة العظيمة لهذه البقعة المباركة.
وحتى نربط السابق باللاحق، نقول إن التحولات الكبرى التي يعرفها العالم الموار، والمسار والمنعطف الذي تعرفه القضية الفلسطينية اليوم، كل هذا يؤكد بالواضح أن الصراع مع الكيان الصهيوني هو صراع أكبر من أرض تحرر أو سيادة تسترجع.
3- أي موقع للمرأة؟
لقد عودتنا السيرة النبوية بأحداثها المتنوعة أن المرأة تكون حاضرة بقوة في كل المشاهد الكبرى. وفي موضوعنا، لن يأخذ منا البحث وقتا يُذکر حتى نكتشف أن منطلق هذه الرحلة المعجزة ومنتهاها كان في بيت “امرأة”؛ إنها الصحابية الجليلة فاختة بنت أبي طالب بن عبد المطلب، الملقبة بأم هانئ، هي ابنة عم النبي وشقيقة الإمام علي كرم الله وجهه، وعمة أولاده الحسن والحسين رضي الله عنهما. وأمها فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي إحدى ذوات الرأي والأدب من قريش.
كانت تعرف بشخصيتها القوية في الإسلام كما كانت في أيام الجاهلية. كانت رضي الله عنها ممن نقل إلينا جزءا مهما من هذه المعجزة.
عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: “دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس: أي في الظلام بعيد الفجر، وأنا على فراشي، فقال: أشعرت: أي علمت أني نمت الليلة في المسجد الحرام، أي عند البيت أو في الحجر” وفي رواية: “فرج سقف بيتي”. وفي رواية قالت: “ففقدته من الليل فامتنع مني النوم مخافة أن یکون عرض له بعض قريش”. وتضيف رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال: “يا أم هانئ لقد صليت معك العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس وصليت فيه، ثم صليت صلاة الغذاة معكم الآن كما ترين”.
ثقته صلى الله عليه وسلم بأم هانئ كانت شديدة جعلته يسر إليها بأدق تفاصيل رحلته، بقلب مطمئن أنها ستصدقه، وهي بعد لم تؤمن برسالته.
وتضيف رواية أخرى: “ثم قال لأم هانئ بعد أن أخبرها بذلك: أنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم عما رأيت، قالت أم هانئ: فعلقت بردائه وقلت: أنشدك الله ابن عم” وفي رواية: “إني أذكرك الله أنك تأتي قوما يكذبونك وينكرون مقالتك، فأخاف أن يسطوا بك” فضرب بيده الشريفة على ردائه فانتزعه من يدي فارتفع.. فإذا بنور ساطع كاد يخطف بصري، فخررت ساجدة، فلما رفعت رأسي إذ هو قد خرج، فقلت لجاريتي “نبعة” وكانت حبشية معدودة في الصحابة رضي الله عنها “اتبعيه وانظري ماذا يقول؟”.
إنه حرصها الشديد، وخوفها مما قد يصيب النبي صلى الله عليه وسلم من مكروه. وهي التي تنبهت بسرعة، وكان توقعها في محله، بأن قريشا لم تُسلِّم ولن تصدق أبدا بما سيحدثهم به صلى الله عليه وسلم، فضلا عن إذايتهم له صلى الله عليه وسلم.
حاولت أم هانئ ثم حاولت أن تمنعه من الخروج إلى قريش، لكنه صلى الله عليه وسلم مضى في أمره. وهو العائد من رحلة ملأت قلبه فرحا لا يوصف، ومع ذلك كان هناك قلق عميق يعتريه؛ لأنه مُطالب بأن يحكي قصة الإسراء للمشركين، وهو يعلم أن الناس سيكذبونه لا محالة.
شاء الله سبحانه -إذن- أن تحظى أم هانئ بهذا الشرف، بأن تكون الشاهدة الوحيدة على هذه الرحلة المعجزة العظيمة.
ولعمري هذا وحده يكفي ليؤكد أن المرأة في كل زمان ومكان مؤهلة بأن تكون شاهدة بالقسط، ومدافعة عن مقدسات هذه الأمة، وعلى رأسها المسجد الأقصى وكل فلسطين.