أن تعم رحمة الرسول صلى الله عليه المسلمين أمر مفهوم متوقع مصداقا لقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (الأحزاب، 6)؛ عن مجاهد قال: هو أب لهم، والأب رحيم بأولاده. لكن أن تعم رحمته الكفار على الرغم من تعدد أشكال الأذى الذي ذاقه وأصحابه منهم، وأن يتألم لهم ألماً عميقاً لأنّهم لم يستجيبوا لدعوته، ولأنّهم سوف يخسرون الدنيا والآخرة، فهذا يمثّل قمّة الرحمة في أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
قال سبحانه: لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (الشعراء، 3).
وقال تعالى: ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون (النمل، 70).
وقال عز من قائل: فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون (فاطر، 8).
في هذه الآيات بيان لمدى رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفقته بمن دعاهم إلى الهداية فأعرضوا عنها حتى أنه كاد يهلك من الحزن والأسى لأنهم لم يؤمنوا، وهذا يدل على ما يحمله هذا القلب العظيم من حب الخير للناس جميعا، وصدق الله تعالى إذ قال: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء، 107).
ومن إكرام الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وعظيم مكانته عنده سبحانه لم ينزل العذاب بالكافرين من قومه مع أنهم جحدوا وتحدوا أن ينزل فيهم العذاب، فقالوا: اللَّهُمَّ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (الأنفال، 32).
بل جعله الله أمانا في أمته كما قال صلى الله عليه وسلم: “أنزل الله علي أمانين لأمتي وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة” (1).
وفي دعائه صلى الله عليه وسلم “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” قال القاضي أبو الفضل – وفقه الله -: “انظر ما في هذا القول من جماع الفضل، ودرجات الإحسان، وحسن الخلق، وكرم النفس، وغاية الصبر ، والحلم؛ إذ لم يقتصر – صلى الله عليه وسلم – على السكوت عنهم حتى عفا عنهم، ثم أشفق عليهم، ورحمهم، ودعا، وشفع لهم، فقال: اغفر أو اهد، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: لقومي، ثم اعتذر عنهم بجهلهم، فقال: فإنهم لا يعلمون” (2).
فاللهم اجعله لنا شفيعا وأمانا يوم القيامة. آمين، والحمد لله رب العالمين.
(1) سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنفال، الحديث 3082.
(2) كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض، ج1، ص177.