يقول الله تعالى في محكم تنزيله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. ويقول عز من قائل فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المتوكلين[آل عمران: 159]
وعن أبي صالح رحمه الله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يناديهم: “يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مُهداة”. رواه الحاكم رحمه الله وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي.
رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمةٌ مهداة للعالمين يبشرهم بما أعده الله لهم من نعيم، وخير عميم، وجنة عرضها السماوات والأرض، ويحذرهم من عذاب الله وغضبه.
رحمة رسول الله بخلق الله عطاء من الله لخير خلق الله، حتى يؤلف الناس ويجمعهم على دين الله، ويحببهم لله ويحبب الله لهم، حتى يبذلوا حياتهم نصرة لدين الله وجهادا في سبيله، ويشتاقون للقاء الله، وتصبح غايتهم في الدنيا رضى الله، وفي الآخرة لذة النظر لوجهه الكريم.
الأمثلة على رحمته صلى الله عليه وسلم كثيرة ومتعددة، بل إن سيرته وكل سلوكاته وأفعاله لا تخرج عن إطار الرحمة المهداة.
ففي غزوة أحد يوم كُسرت رُباعيته صلى الله عليه وسلم، وشُجّ وجهُه الشريف، غضب الصحبُ الكرام رضي الله عنهم وقالوا له أدع عليهم يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.
استغفرَ لهم، ونسبهم إليه، والتمس لهم العذر، أيُّ رحمة هذه. إنه رسول الله وكفى.
عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال فلم يُجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقَرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملكَ الجِبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملكُ الجبال وسلم عليّ ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئتَ أن أُطْبِق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرج اللهُ من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً». إنه رسول الله وكفى.
نحن أفراد أمة رسول الله وإخوانه صلى الله عليه وسلم، علينا اتباعه والتأسي به واقتفاء أثره، علينا أن نتصف ونتحلى بشيء من رحمته صلى الله عليه وسلم في سلوكاتنا وأفعالنا، في علاقتنا مع أبنائنا وأزواجنا وإخواننا وجيرانا، في علاقتنا مع الأغيار من غير المسلمين الذين لم يصلهم الإسلام في صفاء ونقاء، في علاقتنا مع خلق الله أجمعين، علينا أن نكون “رحمة في العالمين “
والرحمة عطاء من الله ومنة منه سبحانه، وهي أيضا أخدٌ بالأسباب وبذل للوسع في الإقبال على الله والإكثار من ذكره أناء الليل وأطراف النهار، ولعل من الأسباب التي لا بد منها من أجل تحصيل هذه الرحمة القلبية، نجد محبة الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم، وصحبته، واقتفاء أثره، والسير على خطاه، ومحبة من يحبه والتأدب معه، ثم ذكر الله والحضور القلبي مع الرحمان الرحيم في الدنيا حتى يرحمنا في الآخرة، والاقبال على كتاب الله، قراءة وحفظ وتدبرا، فهو رحمة ونور وشفاء لما في الصدور. مع الصدق في طلب وجه الله والتصديق بالغيب كما أمرنا الله، والكينونة مع الصادقين وملازمتهم.
الرحمة لين وشفقة، ورقة قلب واستغفار، وعفو وسلامة قلب، ومودة وحب في الله، وهي أيضا عزم وصرامة، وشدة وحرص على تنفيذ شرع الله، وكراهية وبغض في الله.
الرحمة مفهوم جامع لكل الصفات والخصائص التي تضمن توازن الشخصية المؤمنة المحسنة، حيث ضبط النفس واليسر والسكينة، حيث اللين في غير ضعف والقوة في غير عنف.
الرحمة هي خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شموليته، كان خلقه القرآن كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها، والقرآن الكريم جامع لكل معاني الرحمة وموضح لها، بل إنه رحمة للعالمين. يقول الله تعالى نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا (الإسراء: الآية 82).
العالم اليوم في حاجة ماسة إلى هذه الشخصية المؤمنة المحسنة، التي تخالط الناس وتصبر على أذاهم، لا تعامل بالمثل، بل تعفو وتصفح وتستغفر، تتواضع وتخفض الجناح لعباد الله، وذلك من أجل إصلاح ذات البين بين الخلق والخالق، وتعمل على تحبيب الله لعباده، بالحكمة والموعظة الحسنة، حثى يعرف الناس أن الله رحيم، كريم، جواد، أحنُّ على العبد من أبيه وأمه والناس أجمعين، لايواخد الناس بذنوبهم بل يمهلهم حتى يتوبوا ويرجعوا إليه سبحانه.
شخصية تعمل على تحبيب خلق الله لله بالاستغفار الدائم لهم، والدعاء معهم في جوف الليل، بالتوبة، والمغفرة، والستر والحفظ، والنجاة من فتن الليل والنهار، والدعاء معهم باليقظة القلبية والإقبال على الله.
نحن في حاجة إلى هذه الشخصية المؤمنة المحسنة التي تتحمل الأذى في سبيل نصرة المستضعفين والدفاع عنهم، والكشف عن حيل الظالم ومساوئ الظلم والاستبداد، الكشف عن حقيقة خيرات الشعوب وثرواتها كيف تُنهب وكيف يتم تهريبها.
إن هذه الشخصية المؤمنة المحسنة هي القادرة على تبليغ رسالة الإسلام للعالمين في صفاء ونقا، حيث الرحمة القلبية والحكمة العقلية، حيث المودة والمحبة واللين والعطف والتعاون والتضامن، حيث العزة والكرامة والعدالة الاجتماعية، حيث الحق والعدل والمساواة. يومئذ يدخل الناس في دين الله أفواجا ويفرح المؤمنون بنصر الله، يومئذ يصبح المؤمنون بسلوكاتهم وأفعالهم وأقوالهم رحمة في العالمين، في اقتفاء تام لأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتصاف كامل بأخلاق القرآن، وحضور قلبي دائم مع الرحمان الرحيم.
اللهم اجعلنا رحمة في العالمين عطاء منك ومنة. آمين والحمد لله رب العالمين.