مقدمة
إن كرونولوجيا الإصلاحات التي عرفها التعليم بالمغرب الأقصى على كثرتها وتسلسلها وتناسلها منذ انسحاب عساكر الاحتلال الفرنسي لمما يثير انتباه المتتبعين ويطرح تساؤلات عن جدوى هذه المحاولات الماراطونية التي لا تكاد تغلق صفحة إحداها حتى تنفتح أخرى، فإلى أين نحن ذاهبون بهذا الميدان الحيوي الذي تتبارى الأمم الراقية في تجويده وتفعيله ومن ثم تسليمه زمام القيادة لقاطراتها التنموية والتكنولوجية والصناعية والمدنية والعسكرية؟ فهل عجزت عقول اللجان المنكبة على إعداد خطط الإصلاح حتى عن ابتكار خطة واحدة على الأقل تكون ناجعة وناجحة خلال كل هذه العقود؟ هل الخلل في اختيار اللجان، أم المشكلة في عدم ملاءمة البيئة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للتنزيل الصحيح لتلكم المخططات الإصلاحية المرجوة وليس في المخططات ذاتها، أم في بخل الدولة عن الإنفاق عن ميدان تراه مكلفا ومستهلكا؟ أم أن الإشكال في فلسفة التربية وسياسة التعليم من منظور الدولة المغربية؟
هذه وغيرها تساؤلات مشروعة لم يعد يقتصر طرحها على المثقف المغربي بل اتسعت دائرتها لتصل إلى أكثرية المغاربة، وأضحت تتداولها وتناقشها الأوساط الشعبية.
مراجعة عتبات النجاح
لا يتسع المجال في هذا المقال للخوض والتفصيل في الإشكاليات المطروحة، لكن سنكتفي بالوقوف مليا عند مسألة الرفع من عتبات النجاح، وهي آخر ما استجد من إصلاح مقترح لداء منظومتنا التعليمية المزمن العضال، لنتبين معاني هذه المبادرة وأسباب صدورها ومراميها، ومقتضياتها وتربة تنزيلها، ونستطلع نتائجها في ضوء حقائق الواقع وإكراهات الميدان المادية والمعنوية.
معنى الرفع من عتبات النجاح
المقصود عمليا بالرفع من عتبات النجاح هو الوصول إلى عتبة 10/5 بالنسبة لمستويات التعليم الابتدائي وعتبة 20/10 بالنسبة لمستويات التعليم الثانوي بحلول نهاية الموسم الدراسي 2017-2018، وذلك في عملية رفع تدريجية للعتبات ابتداء بالموسم الدراسي الحالي 2015-2016، مرورا بالموسم القادم 2016-2017، وانتهاء بالموسم 2017-1018.
لماذا الرفع من العتبات
كان هاجس تضخيم الكم على حساب الكيف، هاجس الرفع من عدد المتمدرسين والتقليل من الهدر المدرسي قبل متم السلك الإعدادي، ملقياً بظلاله على تفكير القائمين على التعليم ببلادنا، سعيا منهم لتلميع الصورة وتزيين الواجهة إزاء الهيئات والمنظمات الدولية المتخصصة في دراسة مؤشرات التعليم والتنمية، فتم اللجوء إلى تخفيض العتبات إلى 10/3 ولربما أقل من ذلك في عديد من مؤسسات التعليم الابتدائي، وإلى 20/7 أو أقل منه في التعليم الثانوي، والمسألة أدهى وأمر عندما تتعلق بالانتقال بين الأسلاك، من الابتدائي إلى الإعدادي، ومن الإعدادي إلى التأهيلي، فكانت الحصيلة مئات الآلاف من التلاميذ في ربوع البلاد يتسلقون سلم المستويات الدراسية بلا استحقاق. فبما أن النجاح مضمون أو شبه مضمون فقد تراجعت الحافزية للاجتهاد والتحصيل لدى التلميذ المغربي بشكل فظيع، وكشفت الروائز الدولية عن تقهقر واضح فاضح لمكانته بين أقرانه في البلدان التي يشملها الاختبار، معذرة لتلامذتنا وفلذات أكبادنا الأعزاء، فالمفضوح الحقيقي ليس هو التلميذ بل هو النظام التعليمي المتخلف الذي أفضى بنا إلى هذه المخرجات البئيسة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهناك شبه إجماع إن لم أقل إجماعا وطنيا على أن مستوى الطالب المغربي اليوم في اللغات والمواد الدراسية أضعف بما لا يدع مجالا للشك مقارنة بطلبة العقود القريبة الماضية، وعلى أن مخرجات نظامنا التعليمي لا تنسجم مع المحيط القيمي الاجتماعي ولا تتلاءم مع النسيج الاقتصادي التنموي.
الرفع من العتبات إذن أضحى قضية تمليها ضرورات وضغوطات محلية ودولية، لكنه قد يتعارض مع الهم المسيطر على ذهنية المسؤولين الذي أشرت إليه سابقا، ذهنية تهيمن عليها ضخامة الأعداد الغثائية على حساب الجدوى والنوعية والفعالية، إذ يرون أن الرفع من عتبات النجاح سوف يؤدي إلى زيادة أعداد ضحايا التكرار والفشل والفصل والهدر المدرسي.
مرمى الرفع من عتبات النجاح مبدئيا هو تحسين مستوى التلميذ المغربي والرفع من جودة التعليم المغربي، ولا يختلف عاقلان في كونه مطلبا محمودا، وبالخصوص بعدما وصلت النتائج إلى حضيض يشمئز منه كل غيور كريم، ويطرب له كل متربص لئيم، وإن كانت القضية التعليمية في شموليتها وارتباطاتها أعظم وأوسع من مجرد الرفع من العتبات.
مقتضيات عملية الرفع من العتبات
الجميع الآن على قناعة بتدني تحصيل التلميذ المغربي ومستواه، وعليه سوف نشعره بقدر من الصرامة في مسالة النجاح لكي يشمر على ساعد الجد، ويتخلص رويدا رويدا من التواكل المعتمد على صدقة النجاح غير المستحق، حسنا، لكن إضافة إلى هذا العامل التحريضي التحفيزي لا بد من دعم المتعثرين دعما دراسيا وسيكولوجيا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهذا هو مربض الفرس في العملية كلها، فهو يقتضي التدبير المحكم للأطر الزمكانية واللوجستيكية والهيكلية والموارد البشرية والمالية.
تدبير الزمان وترشيد استعماله، وتدبير المكان من بنايات وقاعات ومؤسسات، وتدبير الأطقم المتمكنة علميا ونفسيا، وتدبير حاجياتها اللوجستيكية والمالية، والمادية والمعنوية، هذه مهام لا يمكن القيام بها دون إشراك كل المعنيين في البلاد، وتعبئة الإمكانات، وفتح الأبواب أمام حوار جاد ونقاش مسؤول، على مرأى ومسمع من الشعب، يدلي فيه كل مكون بدلوه ويتحمل فيه نصيبه.
لقد آن الأوان ليس لإشراك الشعب تصدقا عليه بقدر من المشاركة، بل لفرض مشاركة الشعب، الذي تم تغييبه لعقود من الزمان، في قضاياه المصيرية وعلى رأسها قضية التربية والتكوين والتعليم، لأجل أن يكون الجميع على بينة من وجهة البوصلة ومن الإمكانيات المتاحة المأسورة، ومن الطاقات الواعدة المحجوزة، ومن المراحل الضرورية، ومن الأهداف القريبة والآفاق الاستراتيجية.
الواقع الراهن
بين عشية وضحاها دعي عدد من أطر المنظومة التربوية التعليمية إلى حضور اجتماعات حول “التدابير ذات الأولوية” مع السادة المسؤولين في المنظومة على مختلف الأصعدة، فوجد المجتمعون أن الأمر في ظاهره في غاية البساطة، لكنه في جوهره في غاية الصعوبة، نعم من السهل أن نحدد عتبات النجاح، فلينجح المجتهدون وليسقط المتهاونون، لكن الأمور ليست بهذه السذاجة، لأن الرهان الحقيقي على الرفع من مستويات التلاميذ دون المخاطرة بنسب النجاح، وما يترتب على ذلك من تعثر وفشل وهدر. والحال أن ظروف وإمكانات الدعم التعليمي والنفسي للتلاميذ غير متوفرة، وأن العمل على توفيرها لا تكفيه ثلاث مواسم دراسية حتى ولو افترضنا بوادر إرادة سياسية لذلك.
وحقيقة فإن المؤشرات الميدانية لا تبشر حاليا بوجود إرادة سياسية صادقة لبناء تعليم ذي جدوى يخدم كرامة المعلم والمتعلم والمواطن على حد سواء، ويخرج البلاد من ربقة التبعية ويحررها من الاستبلاد والاستعباد، وما قمع وتعنيف السادة الأساتذة المتدربين عنا ببعيد.