الرفق

Cover Image for الرفق
نشر بتاريخ

مقدمة

يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” (1).

قبل الإسلام كان العرب أصحاب أخلاق وذوي مروءات، لكنها كانت غير كاملة، فجاء الحبيب صلى الله عليه وسلم ليتممها.

إن حسن الخلق هو أساس الخيرية والتفاضل بين الناس في الدنيا والآخرة، فنيل السعادة والعيش في أكنافها لا يكون لا بالمال ولا بالجاه ولا بالجمال وإنما بحسن الخلق. وقد جعل صلى الله عليه وسلم التفاوت بين المؤمنين بحسن الخلق، أي أن أكملهم إيمانا هو أحسنهم أخلاقا، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا” (2).

ومن هذه الأخلاق ما يعطي الله سبحانه عليه ما لا يعطي على غيره، ألا وهو الرفق، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه” (3).

فما هو الرفق؟ وكيف نتحلى بهذه الخصلة الحميدة التي يحبها الله ورسوله؟

معنى الرفق

لغة: الرفق من فعل رَفَقَ يَرفُق (ويَرفِق) رِفْقًا. ونقول رفق بالرجل بمعنى حن وعطف عليه.

واصطلاحا: هو لين الجانب، واللطف في أخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها.

ويعرفه الإمام المرشد رحمه الله بـ”الرفق هو مقام من المقامات الإحسانية التي تبلغ السالك الفرد إلى دار الجزاء والبقاء” (4).

ويعرفه العلماء بـما يلي: الرفق هو اللين بالقول والفعل، اللطف وحسن الصنيع وضبط النفس ورغباتها، وضده العنف والحدة.

نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل، من وهبه إياها فقد نال الخير العظيم في الدنيا والآخرة.

الرفق في الكتاب والسنة

يقول عز من قائل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (5).

فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم، فجعلته صلى الله عليه وسلم رحيما بهم لينا معهم، ولو كان قاسي القلب ما تألفت حوله القلوب. فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وحليم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يحمّلهم همه… ما غضب صلى الله عليه وسلم لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية، ووسعهم بره وحلمه وعطفه. كان رفيقا هينا لينا سهلا في تعامله، وفي أقواله وأفعاله، يحب الرفق ويحث الناس عليه ويرغبهم فيه (6).

وقال سبحانه مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (7) بمعنى: كن لطيفا في خطابك مع من اقتدى بك واتبع طريقك وصدق برسالتك.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعطي حظه من الرِّفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرِّفق حرم حظه من الخير» (8).

عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فأشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به» (9).

وقد يظن بعض النَّاس أنَّ معنى الرِّفق أن توافق الناس على ما يشتهون ويريدون، لكن الأمر ليس كذلك، بل الرِّفق أن تسير بالنَّاس حسب ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، ولكن تسلك بهم أقرب الطرق وأرفقها، ولا تشق عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله، وإلا دخلت في الشق الأول من الحديث.

يقول الإمام المرشد رحمه الله: توازن الشخصية المؤمنة المحسنة ينسج على منوال المعادلة بين ضبط النفس وإنصاف الغير. إن كان ضبط النفس بلجام الشرع لرقي الإنسان في مراتب الإحسان فهو في نفس الوقت عطاء جانبي، يضمن كف الأذى عن الناس، ويضمن نهوض المؤمن لصد العدوان والظلم عن الغير، ويضمن إيصال النفع إليهم بدافع إحساني تبرأ صاحبه من الأنانية والشهوانية والغضبية (10).

مثل لرفق رسول الله صلى الله عليه وسلم

لقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا أروع الأمثلة في الرفق؛ فهذه الصحابية الجليلة درة تأتيه باكية شاكية من نساء يستهزئن منها. فمن تكون درة هذه؟ وما الذي أبكاها حتى جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كي ينتصر لها ويرفع الظلم عنها؟

هي درة بنت عبد العزى بن عبد المطلب، عم النبي صلى الله عليه وسلم، أمها أروى بنت حرب الملقبة بـ«أم جميل».

نشأت درة في بيئة شديدة العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أبوها الملقب بأبي لهب وما أدراك ما أبا لهب، وهذه أمها صاحبة لقب حمالة الحطب، سورة المسد شاهدة عليهما، وهذا أخوها عتيبة الذي كان آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل الوسائل، رغم كل هذا أسلمت وأعلنت التوحيد وحسُن إسلامها واعتزت به، هاجرت إلى المدينة مجاهدةً صابرةً محتسبة.

كانت رضي الله عنها ذات طلعة جميلة زين الله تعالى قلبها بالإسلام والإيمان وكره إليها الشرك والعصيان، تعرفت على الإسلام، وأيقنت أنه الحق والعدل، أقر مبدأ مسؤولية الفرد وحسابه عن أفعاله لا عن أفعال غيره وإن كانوا أهله، فسعت إليه واختارته، متحدية بيئتها وقومها، وخرجت مهاجرة إلى المدينة.
تشرفت بقرابتها للنبي صلى الله عليه وسلم وحبها له، وحرصت على معرفة صحيح دينها، فلازمت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقويت علاقتها بها، وأخذت منها العلم ودراسة الفقه، بالإضافة إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم مما جعلها من رواة الحديث الثقات، وبلغت منزلة في العلم تفوق أقرانها. نالت برجاحة عقلها مكانة عالية عند النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي أحد الأيام وهي في المدينة مرت ببعض نسوة بني زُرَيق، فعايرنها قائلات: “ماذا تفيد هجرتك وقد نزل في أبويك قرآن يبشرهما بالنار، أنت ابنة أبي لهب، فما تُغْنِي عنك هِجْرَتَك؟ فأتت دُرة النبي تشتكي له، فهدأ من روعها وذهب للصلاة، ثم صعد المنبر، وقال: «ما بال أقوام يؤذونني في نسبي وذوي رحمي؟ ألا ومَنْ آذى نسبي وذوي رحمي فقد آذاني، ومَنْ آذاني فقد آذى الله، فوالله إن شفاعتي لتنال قرابتي يوم القيامة» (11)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: “لا يؤذى حي بميت”، ولما رجع قال لدرة: “أغضب الله من أغضبك”.

في سيرة هذه الصحابية الجليلة يظهر لنا الرفق في أسمى معانيه، كيف رد لها عليه الصلاة والسلام الاعتبار؛ مسح دمعتها ورفع شأنها، رغم الأذى الذي أصابه من أهلها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعمل بقاعدة “لا تزر وازرة وزر أخرى” و”لا يؤذى حي بميت”.

خاتمة

يقول الله عز وجل واصفا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بصاحب الخلق العظيم إنك لعلى خلق عظيم (12)؛ هي شهادة من رب العالمين. وتخبرنا أحب النساء إليه أمنا عائشة رضي الله عنها أنه كان “خلقه القرآن”. هكذا كان الرحمة المهداة، هذا ما كان عليه الحبيب عليه الصلاة والسلام؛ هينا لينا رفيقا يحب الرفق في الأمور كلها.

والحمد لله رب العالمين.


(1) رواه أحمد وصححه الألباني.

(2)  واه أحمد وصححه الألباني.

(3) صحيح مسلم.

(4) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج2، ص366.

(5) آل عمران: 159.

(6) سيد قطب، في ظلال القرآن، المجلد الثاني، ص 112، بتصرف.

(7) الشعراء: 215.

(8) رواه الترمذي واللفظ له وقال حديث حسن صحيح، وأحمد والبخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.

(9) رواه مسلم.

(10) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج2، ص367.

(11) الإصابة 635/7، قال الحافظ بن حجر رواه بن منده.

(12) سورة القلم: 4.