من نعم الله عز وجل على الناس كافة أن أرسل نبيه الكريم بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال. فالدين كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله “كله خلق. فمن زاد عليك في الخلق. زاد عليك في الدين”.
ومن أعظم الأخلاق الفاضلة التي أوصى بها نبينا صلى الله عليه وسلم؛ خلق جميل وعظيم وجليل، إنه خلق الرفق، والرفق كما يعرفه علماؤنا؛ لين الجانب بالقول والفعل والأخذِ بالأسهل، وضدُه العنف والتشديد وسرعةُ الغضب والحِدة.
والرفق فوق ذلك كله صفة جمال من صفات الله تعالى، و(الرفيق) اسم من أسمائه الحسنى. قال ابن القيم في النونية:
وهْوَ الرَّفِيقُ يُحبُّ أهلَ الرِّفْقِ، بَلْ ♦♦♦ يُعطيهمُ بالرِّفقِ فَوْق أمَانِي
فالله سبحانه هو الرفيق المحب للرفق، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللَّهَ رفيقٌ يحبُّ الرِّفقَ في الأَمرِ كلِّهِ” فالله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله، الأمر الخاص والأمر العام الذي يهم المسلمين والناسَ جميعا؛ وبهذا المعنى فالرفق هو الأصل لا العنف، والرفق ليس خمولا ولا ضَعْفا ولا استسلاما كما قد يتوهم البعض، فقوة الرفق أقوى من ظلمات العنف، والشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب. ولنا في رسول الله القدوة والأسوة. فعندما تطاول عليه بعض اليهود وأساؤوا إلى الجناب النبوي الشريف، ردت عليهم أمنا عائشة رضي الله عنها، فماذا كان جواب الحبيب؟
قال: “مَهْلًا يا عائِشَةُ، عَلَيْكِ بالرِّفْقِ، وإيّاكِ والعُنْفَ، أوِ الفُحْشَ” وفي رواية أخرى قال عليه الصلاة والسلام: “مَهلًا يا عائشةُ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه”.
فالمؤمن هين لين، وقد أمرنا في الدين بالتيسير والتبشير: “يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا، ولا تُنَفِّرُوا”.
إنه الرفق النبوي، صلى الله على سيدنا محمد. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “علينا بالنظر في أمثلة حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأناته، وصبره، وتحمله، وشفقته على الخلق، ليكون ذلك لنا نموذجا يحتذى. فإننا لن نسع الناس، ولن ينفتح لنا الناس، إن تقدمنا إليهم بالوجه العابس والتشديد والتعسير. وفي السيرة المطهرة أمثلة رفيعة لرفق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم الناس دينهم، وتدرجه بهم، وحلمه على ذوي الطباع الخشنة وقليلي الفقه”.
الرفق يبدأ في البيت وأهله، والبيت الذي يريد الله به خيرا يدخل عليه الرفق، وإن أراد به شرا نزع منه الرفق فأصبح أهله قساة غلاظا. فالله سبحانه إذا أراد بأهل بيت خيرا رزقهم الرفق ودلهم عليه فتشع السعادة والسكينة، وتنفح المغاليق، وتكثر الأرزاق المادية والمعنوية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله إذا أراد بأهلِ بيتٍ خيرًا أدخل عليهم الرِّفقَ”. وفي رواية أخرى “دَلَّهم على بابِ الرِّفقِ”. وهذه علامة على حب الله جل جلاله لهذا البيت.
فلنجعل بيوتنا محاضن للرفق، مودة ورحمة، محبة ومسامحة، أمنا وإيمانا. على أسس الرحمة والرفق نبني بيوتنا، لنتخلق بأخلاق الله عز وجل، وأخلاق نبيه العدنان عليه الصلاة والسلام.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ومع أهله وخدمه رفيقاً هيناً ليناً سهلاً في تعامله وأقواله وأفعاله، كيف لا وهو القائل “استوصوا بالنساء خيرا” ولنستمع لسيدنا أنسِ بنِ مالك وهو يصور لنا الرفق النبوي.
قال: “خدَمتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشرَ سنينَ، فما قال لي أُفٍّ قطُّ، وما قال لي لشيٍء صنعتُه: لِمَ صنعتَه، ولا لشيٍء تركتُه: لِمَ تركتَه، وكان رسولُ اللهِ من أحسنِ الناسِ خُلُقًا”.
الرفق عطاء من الله، ونعمة عظيمة من نعمه التي لا تعد ولا تحصى، فبه تجتمع قلوب العباد وتتآلف، فما استُؤْلِفت القلوب بمثل الرفق، لأنها مفطورة على من أحسن إليها ورفَقَ بها، ولقد امتنّ ربنا جلّ وعلا على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن جَبَله على الرفق ومحبة الرفق، وبأن جنّبه الغلظة والفظاظة، فقال عز من قائل: فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
كانت الصبغة العامة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء قبله، الرفق والرحمة والحكمة والموعظة بالتي هي أحسن. وعلى مثال سنة الرفق ينبغي أن نتكئ.
فصل اللهم على من كانت سيرته كلها رحمة، ورفقا، وعدلا، وشفقة على الخلق أجمعين. وتهمما بحياة الإنسان ومعاده وآخرته.
لقد من الله عز وجل على حبيبه المصطفى بالرفق، وما زال العطاء من الجواد الكريم متجددا مستمرا حتى تقوم الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لَيُعطي على الرِّفقِ ما لا يُعطي على الخرقِ، وإذا أحبَّ اللهُ عبدًا أعطاه الرِّفقَ، ما من أهلِ بيتٍ يُحرَمون الرِّفقَ؛ إلا حُرِموا الخيرَ”.
فالرفق هو الخير كله؛ من أوتيه فقد حاز الخير كله، ومن حُرمه حُرم الخير كلَه. وهو علامة المحبوبية، فمن حرم الرفق حُرِمَ حظَّه من خيري الدُّنيا والآخرة والعياذ بالله، فأثقلٌ شيءٍ في ميزانِ المؤمنِ يومَ القيامةِ حُسنُ الخُلُقِ.
قال عيه الصلاة والسلام: “إنه من أُعطِيَ حظَّه من الرِّفقِ فقد أُعطِيَ حظَّه من خيرِ الدنيا والآخرةِ، وحسنُ الخُلُقِ وحسنُ الجوارِ يعمرانِ الدِّيارَ ويزيدانِ في الأعمارِ، ومن حُرِمَ حظَّه من الرِّفقِ حُرِمَ حظَّه من خيري الدُّنيا والآخرة”.
والرفق طريق إلى الفوز بالجنة والنجاة من النار؛ فعن عبد الله بن مسعود: “ألا أُخبِرُكم بمَنْ تحرُمُ عليه النّارُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ قال: على كلِّ هيِّنٍ ليِّنٍ قريبٍ سهلٍ”.
وقد توجه أبو الدرداء للرسول الكريم سائلا: يا رسولَ اللهِ دُلَّني على عملٍ أدخلُ به الجنَّةَ؟ فجاءه الجواب النبوي واضحا صريحا: “لا تغضبْ يا أبا الدَّرداءِ ولك الجنةُ”.
ومن أبرز الكمالات الإنسانية أن يكون المؤمن رقيقا لطيفا رفيقا لينا؛ فالرفق زينة الأخلاق، يزين الشيء ويجمله ويكمله، وعندما يُفتقد يصبح الشيء معيبا.
قال صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلّا زانه، ولا نُزِع من شيءٍ إلّا شانه”.
فالحياة مع الرفق والعفو والصفح نعمة وسعادة، والحياة مع العداوة والعنف والبغضاء بؤس وشقاوة.
فلنقبل على الله عز وجل طلبا لوجهه إقبالا قلبيا وعمليا لتنبعث في القلب الرحمة، وتنعكس لينا ورفقا؛ والقلب المقطوع عن الله انقطع عنه المدد فغدا صحراء قاسية لا تنتج إلا الغلظة والفظاظة والجفاء والعنف “فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله”.
فالرفق أساس في سيرنا وسلوكنا إلى الله، لكن المعاملة مع الخلق هي محك ترقي النفس، والثمرة تظهر في ميدان المعاملات والمكاره، هذا هو الميزان والمحك الذي يختبر فيه حال وشأن السائر إلى الله تعالى.
فخبايا النفس وأمراضها تظهر عند الاحتكاك بالخلق والتعامل معهم ومخالطتهم. فارحموا من في الأرضِ يرحمْكم من في السماءِ.
وإنْ أردْتَ تَلْيِينَ قلبِكَ، كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم فَأَطْعِمْ المِسْكِينَ، وامْسَحْ رَأْسَ اليَتِيم.
وجماع ذلك كله وصية خير الآنام: “اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، وأَتبِعِ السَّيِّئَةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حَسنٍ”.
اللهم زينا بالأخلاق وأصلح أعمالنا ووفقنا للخير وأعِنا عليه. اللهم أصلح سريرتنا واجعلها خيرا من علانيتِنا واسترنا بسترك الجميل. اللهم فرج عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم واكشف غُمتها وحفظها وارزقها الرشد والرشاد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.