هل الزواج الشرعي اليوم موجود، لنحافظَ على مقاصده؟ أو مُغَيّب، لنطالبَ بإمداده بالوسائل المشروعة؟ من عَسَّر الزواجَ على الشباب، وما الذي صَدَّهُمْ عنه؟ هل الشباب اختار العزوبة أم أُجْبِرَ عليها؟
إيجاد الزواج الشرعي
تعد الدعوة الملحة للزواج في الوقت الراهن، بمقاصده الشرعية ووسائله المشروعة، أمرا بالغ الأهمية؛ فالمتمعن في الأرقام الرسمية المهولة الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط، في تقريره ”المرأة المغربية في أرقام” لسنة 2023م، يستنتج الارتفاع المقلق لظاهرة العزوف عن الزواج والعنوسة والعزوبة الاختيارية، وانخفاض معدل الخصوبة… نظرا للتداخل بين الأسباب الذاتية والعوامل الموضوعية، والتي شكلت عقبات وإكراهات حالت دون إقبال الشباب على الزواج، مما أثر بشكل مباشر على الاستقرار المتميز للمجتمع، والاستمرار الجيد للنوع البشري المستخلف في الأرض، تحقيقا لعبودية الله تعالى القائل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ. وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا 1. وأمام محاربة الطفرة اللائيكية للفطرة الربانية، أضحى مقصد النسل الشرعي مهددا، وأصبح خلف الأمة يطالب بإيجاد الزواج ويسعى إلى إمداده، بعد أن ضيع أمانة المحافظة عليه من سلفها.
الطفرة اللائيكية
إن الطفرة في القيم والأخلاق أفقدت الزواج معناه، والفَترَة في تقويم وتدبير المجتمع أفقدته مبناه. مما فسح المجال أمام العلاقات الرضائية خارج الزواج، والشذوذ الجنسي المثلي المقزز، وتسخير الإعلام الماجن؛ وهي رذائل أجنبية مستوردة، ومذَمَّات غربية فاتنة مفتونة، ورّطت شباب الأمة في أوحال الشهوة بعد إصرار من دعاة الحريات الفردية المطلقة، وترصد المنظمات المتآمرة على هدم أركان الأسرة المسلمة، بعد عجز الدولة وتملصها من مسؤوليتها في حماية الأسرة باعتبارها “محضنا أساسيا للتربية والتنشئة الاجتماعية، ودعم الأسر الفقيرة والشباب الراغب في الزواج ماديا، وبتوفير مساكن بالإيجار، وفق صيغ تعاقدية منخفضة التكلفة” 2، فلذلك كان الاعتناء بضبط “العائلة من مقصد الشرائع البشرية كلها. وكان أول ما عني به الإنسان المدني في إقامة أصول مدنية بإلهام إلهي، رُوعي فيه حفظ الأنساب من الشك في انتسابها” 3، إلا أن الطفرة لها مخططات لفصل جسده عن روحه، بل فصله عن خالقه. لقد انطمست الفطرة “في هذه الأعصار التكنولوجية الجنونية الراكضة خلف الاستهلاك والمتعة والشهوة، وانغمرت وانعكست تحت ركام دهرية مفلسفة معقدة. لا يُخِفْنا التواؤها وتعقدها من أداء مهمة الأبوين، ولا يُزِغنا تمشدقُها وحذلقتها عن الأسلوب الفطري: بثُ كلمة الحق في الطفل في الوقت المناسب، بالباسطة المناسبة، من القلب إلى القلب” 4.
إفساد الفطرة
ابتليت مجتمعات المسلمين المعاصرين المغلوبة، بعد فصل الأحكام الشرعية عن الحكم المشروع، باستيراد الحلول الأجنبية الفاشلة في تدبير الأسرة، وتقليد الغرب الذي بدد أسره خلال الانفصام النكد بين تدبير الشأن الخاص والشأن العام، أما الزواج عنده فهو مدني في شكله دَيُّوت في جوهره؛ زواج الطفرة، زواج مفتون، أفقد الزواج الفطري معناه المشروع ومبناه الشرعي، والذي اعتبره كتاب الله تعالى ميثاقا غليظا، في طابعه المؤسساتي المنظم في العشرة والمعاشرة، ونبذ كل أشكال الفوضى والعشوائية، كما قال تعالى: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ ميثَاقًا غَلِيظًا 5، وكلمة ”وثق” تدل في لغة العرب على “السكون والاعتماد على شيء مَكين مألوف. والميثاق (عقد مؤكد بيمين وعهد). ليس من شرط صحة الزواج الإسلامي أن تحلفَ له ويحلِف لها، لكن مجرد القَبُول والرضى والإشهاد يتضمن العهد واليمين والأمانة” 6.
فإذا كان الزواج فطرة ربانية، وسنة الأنبياء مصداقا لقول الحق سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ 7، فإن السنة النبوية المطهرة جعلت من مراميه الإحصان والعفاف، وأعدته حامية للبشرية وحافظة لها من الفتن، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قَالَ: “كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ”متفق عليه، عند البخاري (ح5066)، وعند مسلم (ح1400).. كما اعتبرته مزرعة للثروة البشرية، خاصة إذا كانت أسسه شرعية كما قال الصادق الأمين ﷺ: “تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلودَ، فإني مُكَاثِرٌ بكم الأنبياءَ يومَ القيامةِ” 8. وتأتي التربية المتوازنة للأبوين، والتحلي بشعب الإيمان في جماعة المسلمين لصياغة التكاثر المنشود بدلا من صناعة التكاثر المنبوذ.
إمداد الزواج المشروع
تأسيسا على ما سبق، فإن إكراهات ذاتية و”تحديات” موضوعية، جعلت من الزواج عقبة كؤودا أمام الشباب العفيف؛ تتعلق بإفراغ الباءة من معناها والزواج من مبناه، في مجتمع الترف والرفاه والمظاهر، يعد فيها الزواج وسيلة للثراء غير المشروع، فلابد “من مصانعة الأسرة وتليينها عن المهور الغالية، والتكاثر في النفقة، والغلو في اقتناء الأثاث، وقصم ظهر الخاطب بالشروط” 9. مجتمع حوّل الزوجين، بل الخاطبين، إلى رهائن وأسرى في “القفص الذهبي”، ينتظران الإفراج عنهما بالعفو “المائل الهامل”، وهو “أبغض الحلال” الناتج عن سوء الاختيار في البداية، وصعوبة الاختبار في الوسط، والتصدع والاحتدام في النهاية، أمام انتظار مؤسسات الدولة وبعض التنظيمات المجتمعية، حاشا الفضلاء، نشوب الحريق لتقمص دور رجل المطافئ.
فمن واجب الشباب امتلاك الإرادة، بعد تمكينهم من الحقوق، لاقتحام العقبات المعيقة للزواج بمقوماته الفطرية وآدابه الإسلامية، المرتكز على الملاءمة بين أصالة فقه الأولويات ومعاصرة فقه الواقع؛ فبعد الأخذ بأسباب الرعاية والاحتضان، والتحلي بروح المسؤولية، يأتي التوكل على الله والاعتماد عليه حاسما في كمال بناء البرج الاستراتيجي 10 لربة البيت ورب الأسرة، والتكامل بين الحافظية الشرعية للمرأة والقوامة المشروعة للرجل، وبناء الأجيال على أساس تربوي متين، مصداقا لقوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى 11، فبهذا تكون تقوى الزوجين الركن الروحي للاستقرار، ويؤدي إلى حسن استمرار التماسك الأسري؛ لا يخشى منه الزوجان الفقر بعد السعي الجاد كما قال الله عز وجل: إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ 12. وتقوم الثقة بالله وصدق التوكل عليه مقام العمود الفقري للزواج، ويتجلى ذلك في قوله ﷺ: “ثلاثةٌ حقٌّ على اللهِ عزَّ وجلَّ عونُهم؛ المكاتِبُ الذي يريدُ الأداءَ، والنَّاكحُ الذي يريدُ العفافَ، والمجاهِدُ في سبيلِ الله” 13، ولا أرى هذه الحقوق الثلاثة مجتمعة إلا في الزواج؛ يريد فيه الأزواج أداء الواجب الشرعي، والتحصن بالعفاف المشروع، وجهاد بناء مستمر للأجيال المحسنة الموعودة بالنصر والتمكين والعدل في الأرض، وحمل الرسالة الكونية للناس أجمعين.
بناء عليه، فبعد إيجاد الزواج من ركام الطفرة اللائيكية، وإمداده بالقواعد الشرعية والقوانين العادلة، والرحمة القلبية في دوام المعاشرة بالمعروف، والحكمة العقلية في استمرار العشرة؛ إذ الإيجاد بناء على أساس متين للعلاقة الزوجية، والإمداد تطاول في البنيان المرصوص لتربية الأبناء، حينها فقط نبحث في وسائل وسبل المحافظة على مقاصد الزواج، بجلب المصالح الشرعية، ودرء المفاسد غير المشروعة، واغتنام مرونة فقه الواقع، والترجيح في فقه الأولويات. والاستخارة بعد الحيرة في الاختيار، والصبر في الاختبار، واعتبار الزواج لذة زائلة في الدنيا وقربة ربانية في الآخرة، وصدقة جارية وولدا صالحا مستجاب الدعاء.
ومسك الختام، ما أحوج الشباب إلى المبادرات المُيسرة للزواج! يا حسرتاه على دولة لم توفر الباءة لشبابها! يا أسفاه على مجتمع بالغ في المهور، وأترف في الأعراس! يا لوعتي على شباب كُبِّلت إرادته! اللهم اجعلني والقراء من الذين، ومع الذين، يقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا. أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا. خَالِدِينَ فِيهَا ۚ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا 14، “اللهم صل على محمد النبي، وأزواجه أمهات المومنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد”.
[2] ”الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان”، المقترح 23، ط1، 2023م، ص41.
[3] محمد الطاهر بن عاشور، ”مقاصد الشريعة الإسلامية”، تحقيق محمد الطاهر الميساوي، ط3، 2011م، دار النفائس، الأردن، ص430.
[4] عبد السلام ياسين، ”العدل.. الإسلاميون والحكم”، ط1، 2000م، مطبوعات الصفاء، الدار البيضاء، ص275 و276.
[5] سورة النساء: 21.
[6] عبد السلام ياسين، ”تنوير المؤمنات”، ج2، ط1، دار البشير، مصر، ص137.
[7] سورة الرعد: 38.
[8] أخرجه الإمام الترمذي في سننه (ح1975).
[9] عبد السلام ياسين، ”المنهاج النبوي.. تربية وتنظيما وزحفا”، ط2، 1994م، ص142.
[10] عبد السلام ياسين، ”تنوير المؤمنات”، ج2، ط1، دار البشير، مصر، ص137.
[11] سورة طه: 132.
[12] سورة النور: 33.
[13] أخرجه الترمذي في سننه (ح1975).
[14] سورة الفرقان: 74 و75 و76.