بعدما كان يحلم كل من الزوجين بعش سعيد، يلوذان إليه من صخب الحياة ووحشتها، أصبح الحلم كابوسا يطارد آمالهم ويزيدآلامهم، أصبح الحلم ندما وحسرة وتعاسة.
فما السبيل إلى السمو بهذا الزواج ليصبح سياجا يصون ويحقق السكن، ويصبح عش الزوجية يرفرف بالسعادة، جنة يتفيأ ظلالها جيل سوي بعد جيل؟
كانت الأمهات في جاهلية العرب يُعلِّمن بناتهن اختبار الأزواج لتحُسَّ العروس موطن الضّعف في الرجل فتهجُم منه. كانت الأم تقول لابنتها: اختبري زوجك قبل الإقدام والجراءَة عليه. اِنزعي زُجَّ رُمحه (حديدة رمحه). فإن سكت فقَطّعي اللحم على تُرسه. فإن سكت فكسِّري العظام بسيفه. فإن سكت فاجعلي الإكاف (البِردعة) على ظهره وامتَطيه فإنما هو حمارُك 1.
هكذا كانت نظرة الجاهلية للعلاقة الزوجية، اللبنة الأولى في بناء المجتمع. توارثتها البنات عن الأمهات وصية خالدة تمكن العروس من إتقان فنون الإطاحة بالخصم والانتصار عليه، وكأن القادم حلبة للصراع وساحة للمبارزة والمغالبة بين قوي سلاحه التحكم والإكراه والازدراء وتصيد الأخطاء، وضعيفة سلاحها المكر والتحايل والخيانة.
وتتداركنا رحمة المولى ببزوغ النورالهادي نبي الرحمة صلوات ربي وسلامه عليه بقانون إلهي يزيح ظلمة الجاهلية ويكشف غمتها وينقل العلاقة الزوجية إلى ميثاق مقدس متين غليظ، أشبه بالميثاق الذي أخذه ربنا عز وجل على أولي العزم من الرسل عليهم السلام، علاقة يكون فيها الرجل القوي الأمين والحصن الحصين. معايير القوة والأمانة هي نفسها التي رشحت سيدنا موسى عليه السلام لتختاره ابنة نبي الله شعيب عليه السلام زوجا لها فخلدها القرآن الكريم: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: 26].
علاقة يتسنى للمرأة فيها أن تكون واحة ظليلة حاضنة تضمن الراحة والتساكن، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
هكذا أراد ربنا تبارك وتعالى الزواج يقول الإمام المجدد رحمه الله: الزواج الإسلامي السعيد ما كانت علاقات القوة فيه أخْفى، وما كانت المودة، وروح الدعابة، والكلمة الطيبة اللطيفة فيه أفشى 2.
فالمودة والحب هو الأساس الأول الذي تقوم عليه العلاقة بين الزوجين، ومعه يكون الإيثار حيث يبذل كل من الزوجين قصارى جهده لإسعاد الآخر. وقد يفتر الحب فيأتي الأساس الثاني الذي هو الرحمة، رحمة كل منهما الآخر، وهي فرصة لمراجعة ما فرط فيه كل منهما اتجاه صاحبه، عمل صالح يرجى به الحياة الطيبة هنا في الدنيا ممتدة إلى الآخرة، يناديان يوم الجزاء ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف: 70.] أي تمتعون وتنعمون.
وعد حق فرضه الله تعالى على نفسه لمن أحسن العمل وأتقنه، لمن غلب أنانيته ووقى شحَّ نفسه، وبذل النفس والنفيس، والمكافأة من جنس العمل. قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97.].
معاني الرفق والرحمة والمودة عليها ربى المعلم الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه صحابته الكرام فكان لهم القدوة والمثال؛ مثال الزوج الكامل في الحضر والسفر. روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر ومعه نساء على ظهور الرواحل، فهذا غلام اسمه أنجشة يحدو بالإبل (أي يغني لها) فأسرعت، فنبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: “رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير”. و في رواية “لا تكسر القوارير” 3.
شبه صلى الله عليه وسلم ضعف المرأة، رقيقة الحس مرهفة العواطف، كالزجاجة الرقيقة، السريعة الكسر، بل كزجاجة المصباح، كلما حافظنا عليها ازداد نورها ونصع وتوهج.
على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم سار الصحب الكرام اقتداء. جعلنا الله على هداهم وجمعنا بهم يوم لقائه سبحانه وتعالى.