الزواج عبادة

Cover Image for الزواج عبادة
نشر بتاريخ

الزواج سنة من السنن الجارية والمطّردة بين سائر المخلوقات، حيوانات كانت أو نباتات، وحتى الجمادات، قال تعالى: “ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون 1، آية في غاية الإعجاز، لا يزيدها تطور العلم إلا رسوخاً وثباتاً، فما من مخلوقات في هذا الكون إلا ولها نظير، سبحانه ما أعظم شأنه؛ هو وحده المنفرد بالوحدانية، سبحانه وتعالى، قل هو الله أحد 2. وكل من يحاول التمرد على هذا القانون الرباني فقد انحرف عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ونحا منحى الشذوذ، ومن شذ شذ في النار. وعليه فإن الزواج سنة كونية فعلا -لا كما يحلو للبعض أن يردد هذا المصطلح للاستقواء به – وهدي نبوي ومصلحة بشرية لا يتغافل عنها إلا جاهل، ولا يتنكر لها إلا جاحد، ولذلك حث الشرع الحنيف على الزواج في نصوص كثيرة منها: وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم 3. وجعل الزواج آية من آيات الله فقال: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا 4. وفي الحديث: “تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم” 5، وذم المعرضين عن الزواج فقال: “من كان موسراً لأن يَنكح ولم يَنكح فليس مني” 6. ولهذا قال بعض العلماء بوجوب الزواج ومن تثاقل عليه فهو آثم، وممن قال بذلك الإمام المجتهد ابن حزم.

فوائد الزواج

لا شك أن للزواج فوائد كثيرةً، فلو لم تكن له فوائد لما اتفق الجميع على الترغيب فيه ولما قال بوجوبه من قال، ومهما حاولنا استقصاء الفوائد من الزواج فلن نستطيع ذلك، ويكفينا أن نشير إلى بعضها:

أولا: امتثال أمر الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن للزواج غير هاته الفائدة لكفت بالنسبة للمؤمن المعني بامتثال أمر الله ونهيه في السراء والضراء.

ثانيا: عن طريق الزواج نضمن الحفاظ على النوع الإنساني، لِما ينتج عنه من نسل يمتد عبر الزمان والمكان لعمارة الأرض وبنائها. ولقد غرس الله في قلب الوالدين حب الأولاد مما جعلهما يكدان ويسعيان لتنشئتهم ورعايتهم ليكونوا خير خلف لخير سلف، وبذلك يضمن الإنسان البقاء والتكاثر إلى ما شاء الله حسا ومعنى.

ثالثا: التماس الإحصان والعفاف، بإطفاء الشهوة في الحلال وتلبية الغريزة الجنسية المغروسة في الإنسان ذكرا كان أو أنثى، يأتي ذلك بطريقة شرعية لا يندم بعدها، حتى لا تختلط الأنساب، وحتى يتحمل كل واحد مسؤوليته تجاه رعيته.

رابعا: الشعور بالاطمئنان والإيناس والمودة والسكينة من خلال المعاشرة الزوجية والتعاون على أعباء الحياة، قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون 7. هاته المعاني هي المقاصد الكبرى من الزواج، فإذا ما انعدمت فقَدَ قيمته، قال أحد العلماء: “الزواج شركة رأس مالها المودة والرحمة، فإن نفدتا أفلست الشركة”.

الزواج عبادة

لا ينحصر التعبد في الصلاة والزكاة والصوم والحج كما يظن البعض، لكن التعبد يمتد إلى سائر أعمال الإنسان الإيجابية فوق البسيطة، قال تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له 8. نعم يمكن أن تتحول العادات إلى عبادات يؤجر عليها المؤمن، كما يمكن أن تتحول العبادات إلى عادات لن ينتفع بها العبد لغياب الصدق والإخلاص كما يقول أحد العارفين: “أهل اليقظة عاداتهم عبادات وأهل الغفلة عباداتهم عادات”، فالعبرة بنية العبد وإخلاصه فيما يأتي من أعمال، هذا عن العادات التي تندرج في خانة المباح، فكيف بالزواج الذي رغب فيه الشارع الحكيم قرآنا وسنة وإجماعا وقياسا وعرفا وعقلا وغيرها من الأدلة الشرعية التي تصب في هذا الاتجاه.

وزيادة على ما ذكر من الأدلة أو الفوائد، آتي على ذكر بعض الشواهد التي ترتقي بالزواج نحو أفضل العبادات وأجلها لما يجنيه الإنسان من ورائه، من ذلك:

1)  قال الله تعالى في التنزيل: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين 9. فمن رزقه الله زوجة صالحة وذرية صالحة ومات، فقد وعده الله أن ينفعه بهم وأن يجمعهم به في الجنة، وسيلحق أسفلهم بأعلاهم درجة في الجنة، قال تعالى: ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تُحبرون 10، وقال تعالى أيضا: ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم 11.

2)  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سياق بيان أعمال البر مجيبا من سأل عن ذلك: “… وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر” 12. نعم، يأتي أحدنا شهوته ويكون من نصيبه الثواب والأجر كما يأتي المعصية فيكون له ذنب، وهذا من مقتضيات العدل الإلهي والمنطق البشري.

3)  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث” وذكر منها: “ولد صالح يدعو له” 13. نعم، الولد الصالح من عمل أبيه، يؤجر على صلاحه وتقواه، من باب أن الله تعالى يخلق فينسب لعبده تفضلا منه وتكرما، كما قال ابن عطاء الله السكندري: “إِذَا أَرَادَ الله أَنْ يُظْهِرَ فَضْلَهُ عَلَيْكَ خَلَقَ وَنَسَبَ إِلَيْكَ”.

4)  أحاديث في مدح الإنفاق على الأهل والعيال، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله” 14، وفي رواية أخرى: أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك. وفي حديث آخر ضعفه البعض، رواه ابن عساكر وأبو نعيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من الذنوب ذنوبا لا يغفرها الله إلا بالسعي على العيال”، وفيه روايات متعددة.

  ومما أوردناه يكفي أن نستخلص منه أهمية الزواج ومكانته في الإسلام، فهو عبادة وقربة لا ينبغي الإعراض عنه بحال من الأحوال إلا في حالة وحيدة؛ عند العجز عن أداء الحقوق الطبيعية من الزواج من مرض أو عاهة مانعة، وحتى الفقر لا ينبغي أن يكون عقبة لإتمام الزواج، لقوله عز من قائل: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله 15. قال ابن عباس رضي الله عنهما تعليقا على هاته الآية: (التمسوا الغنى في الزواج)، ذكر ذلك من باب اليقين في موعود الله تعالى.

خاتمة

لعلني في هذه اللمسات السريعة قد انتهيت إلى خلاصة مفادها أن الزواج سنة وعبادة يتقرب بها العبد لمولاه، وإذا ما أضفنا إلى ذلك هذه الدعايات المغرضة التي حملتها رياح العولمة العاملة ليل نهار، من أجل الانسلاخ من الهوية الدينية والاستجابة لمطالب الشواذ التي تطلق العنان للفوضى الجنسية دون قيود، وتنحرف بها إلى أسفل الدركات في سلم الحيوانات، مصوبةً سهامها من أعلى المنابر الكونية إلى كل القيم الإنسانية الفاضلة من أجل تدميرها، مستخدمة كل ما تملكه من أدوات للضغط على الحكومات للقبول بكل ما تأتي به من القوانين تزيل بها كل خصوصيات الشعوب، إذا أضفنا هذه المعركة الحامية الجارفة إلى ما ذكر، صار الزواج بالنسبة للمسلم سنةً مؤكدةً، إن لم نقل فرضا وواجبا، لمخالفة هذا التيار الجارف، نصرة لدين الله، وإغاظة لأعداء الله، واستجابة لنداء فطرة الله. والله ولي التوفيق.


[1] سورة الذاريات، آية: 49.
[2] الإخلاص، آية: 1.
[3] النور، آية: 32.
[4] الروم، آية: 21.
[5] رواه النسائي وأبو داود وأحمد عن ابن عمر، ورواه غيرهم بألفاظ مختلفة.
[6] رواه الهيثمي في مجمع الزوائد، والطبراني في الأوسط. حديث حسن.
[7] الروم، آية: 21.
[8] الأنعام، آية: 162.
[9] الطور، آية: 19.
[10] الزخرف، آية: 70.
[11] غافر، آية: 7.
[12] رواه مسلم، عن أبي ذر الغفاري، تحت رقم: 1006.
[13] رواه مسلم، عن أبي هريرة.
[14] رواه مسلم، عن ثوبان، تحت رقم: 994.
[15] سورة النور، آية: 32.