حل موسم الحج وحل معه الحنين إلى الديار المقدسة، إلى مكة المكرمة أقدس البقاع، إلى بيت الله، أعظم البيوت حرمة عند الله تعالى. يقف الناظر حائرا أمام الدوافع التي تجعل هذا الكم الهائل يقصد هذا المكان الآهل حيث لا يكاد يجد المرء فيه منحى يتنحاه، ويتساءل عن السر الباطن الموجب لحنين النفس إلى هذه المواطن، وعن السر الكامن وراء هذا العشق للبيت العتيق إلى درجة ينتظم فيها قلب المؤمن وبدنه وماله، فيترك الأهل والبلد والأحباب تلبية لنداء المولى جل وعلا وانتماء إلى الموكب النوراني في سيره إلى الله وعبادته له، بدءا بالملائكة ومرورا بالأنبياء والرسل وانتهاء بالمؤمنين جميعا.
الله يستجيب دعاء خليله
الجواب نجده في قول الله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ 1. فالسر يكمن في استجابة الله لدعاء سيدنا إبراهيم واستمرارية مفعول هذا الدعاء إلى الوقت الحالي، فترى أشواق المؤمنين تزداد، ولا يزيدها تكرار التردد إلى البيت العتيق إلا توقدا وتحرقا، لأن مغناطيس الأرواح له مفعول لا ينزاح إلا بانزياح الإيمان من القلوب، فسيدنا إبراهيم عليه السلام دعا الله أن تكون أفئدة الناس وقلوبهم معلقة بالبلد الحرام تعشقه وتهواه فقال عليه السلام تهوي إليهم، فالتعبير كان بـ”تهوي” من الهوى، وهل يعمر الفؤاد إلا الهوى؟!
ويسوقهم شوق لها ** فتراهم وحنينهم كالطير للأوكار
قد فارقوا أوطانهم ورضوا بها ** بدلا من الأوطان والأوطار
للبيت رب تكفل بعمارته
كما نجد الجواب في قول الله تعالى: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ 2. أمر الله عز وجل رسوله إبراهيم بعد بنائه للبيت أن يؤذن في الناس بالحج ويدعوهم لزيارة البيت الذي اختاره الله بيتا له ونسبه إليه، وتكفّل جل وعلا بإسماع صوت نبيه إلى كل الناس أين ما كانوا وحلوا، وجعل أمر عمارة تلك الأماكن المقدسة موكولا إليه وهو نعم الوكيل، ووعد نبيه أن يلبي الناس دعوته، فيتقاطرون على البيت من كل فج وقطر، رجالا يسعون على أقدامهم وركوبا، على كل ضامر؛ كل متعب أنهكه السير فضمر من الجهد والجوع.
دعاء سيدنا إبراهيم ووعد الله لا يخضعان لسنن الزمان والمكان
وما يزال وعد الله يتحقق منذ سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى اليوم، وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وما تزال أهواء الناس تنجر إليه وتزداد اشتياقا له، ويتضاعف عدد العشاق عاما بعد عام.
بشراك يا من حلها بكرامة ** قد هيئـت وصفت من الأكدار
ظفرت يداك بما منحت وشرفت ** قدماك إذ وطئت طـوى الأنوار
يا وافدين تمتعوا وتنعموا ** هذا الحطيم وذاك بيت الباري
إنه الجامع الذي يدعو الله عز وجل لعقده ويقرر مواده ويحسم في مقرراته ويصوغ بيانه الختامي. فكيف لا يتحرك القلب لتلبية دعوته وهو بساط لا يدعى إليه إلا مقرب.
إنه رحلة يستعيد فيها المدعو ذكريات سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يضع بالبيت فلذة كبده سيدنا إسماعيل وقرة عينه سيدتنا هاجر ويتوجه بقلبه إلى الله داعيا: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ 3، كما يستعيد المدعو صورة الرحمة التي تغمر قلب كل أم مجسدة في أمنا هاجر رضي الله عنها وهي تروح وتجيء بحثا عما تروي به عطش رضيعها، فإذا برحمة الله الأوسع الأعمق تتدفق لتشمل كل شيء في صحراء قاحلة فيتدفق زمزم السقاء والشفاء.
ويستعيد صورة الإيمان بالغيب المتمثل في تصديق سيدنا إبراهيم للرؤيا التي رآها فلا يتردد في التضحية بولده، ولا يتردد الولد في طاعة والده فيقول: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ 4، فينقذه الله عز وجل، فيرفعان القواعد من البيت في إنابة وخشوع رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 5.
محمد صلى الله عليه وسلم يجدد دعوة سيدنا إبراهيم
ويشتد الشوق عندما يتذكر العاشق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وطأت قدماه تلك الأرض فتطهرت من كل الأنجاس، يتذكره وهو يرفع الحجر الأسود بيديه الكريمتين ويضعه مكانه ليطفئ نار الفتنة التي أوشكت أن تندلع بين قبائل العرب، يتذكره حين ناداه الله عز وجل اقرأ وما هو بقارئ، يتذكره وهو يسعى لتخريج جيل فريد عمل على بناء صرح الإسلام. يتذكر ويتذكر… فيتذكر معه كلُّ مشتاق للحبيب صلى الله عليه وسلم، مجدد لدعوة سيدنا وأبينا إبراهيم عليه السلام.
يا ربّ بلغ كلَّ مشـتاق إلى ** “عرفات” حيث تعرف الأوتـار
واجمع بجمع شـملَ كل ميـم ** وأنخ لنا بـ”منى” منى الأقدار
وأفض عــلينا بالإفـاضة منــة ** خلع القبـول وجـد لنا بجــوار
وأقر أعينَنا برؤية طيـبـة مـأوى ** الأطايب مجمـــع الأطهــار
وصل الصلاةَ على النبي المصطفى ** عَلَم الهدى بحر الندى التيـار