قبل ست وخمسين عاما من تاريخ اليوم، وفي حي هامشي من أحياء المغرب المنسي في مدينة ما، ولد أيوب في بيت بسيط- جدّ بسيط.
كان المولود الذكر الأول -بعد أخت سبقته- لزوجين شابين.
وعلى حصير بارد من الدّوم، فوقه غطاء صوف خشن -نسجت خيوطه جدّته وقدّمته هدية لابنتها يوم زفافها- كانت والدته تعالج وضعها… وفتح عينيه على الدنيا في أهل بيت لا حضض لهم ولا بضض.
احتفت به الطبيعة على طريقتها في مهرجان شتوي عجيب، فزغرد الرعد ولمع البرق وعزفت قطرات المطر -المتسربة من سقف غرفتهم- أروع السنفونيات وهي تتهاوى راقصة فوق جفنة الحديد التي وضعها الأب كي لا تغمرهم المياه وهم في عرس الميلاد.
دام الاحتفال أياما قبل أن تنقشع السحب وتشرق الشمس وتهبهم شيئا من الدّفء في تلك الغرفة التي أصبحت باردة كزنزانة سجن.
لم يستطع الصغير وأمّه النوم لليال طوال… فقد كانت قطرة الماء المتغلغلة في سقفهم، المتسلّلة إلى حجرتهم، القارعة لقعر جفنتهم، تقرع رؤوسهم وقلوبهم وتسبب لهم ألما لا يطاق.
وسمّوه «أيوب» ليكون ذكرى جدّه لأبيه -رحمه الله تعالى- أو لعلّهم تيمّنوا بنبي الله أيوب لعلّه أن يكون صابرا مثله.
لم تمرّ إلا أيام قليلة حتى استأثر “أيوب” بالاهتمام وصار حديث الساعة. فقد غزاه المرض في بيئة قاسية لا تؤمن بالطبيب، ولا تملك مصاريف العلاج. فتوجّهت به جدّته إلى الأضرحة تسأل الموتى أن يهبوه الحياة.
رحم الله الجدّة وغفر لها فقد بذلت قصارى جهدها.
واستحالت فرحة الأمّ المسكينة حزنا، وأضحت ضحكتها بكاء ودمعا…
كان الصغير يختنق بين الفينة والأخرى، وتكاد روحه تزهق… وكان -حينها- يشعر بخوف أمّه… برعشتها… بحرارة دمعتها… وهي تضمّه إلى صدرها تحميه من الموت الذي كان يغازله في محاولة -كانت يومها- يائسة لأخذه من حضن الغالية.
لم تستسلم الأمّ أبدا… ولم تُسْلم وليدها. ورغم ما كانت تسبّبه لها نوبات صرعه واختناقه من رعب، فقد كانت مستعدة لمحاربة العالم لأجله.
ومرّت المحنة بسلام… وكبر أيوب ودخل المدرسة.
سيولد بعده ثلاث أخوات… ومع كثرة الأفواه المفتوحة الراغبة في كسرة الخبز والمطالبة بكسوة البدن واحتياجات المدرسة… أصبح وضعهم أشدّ بؤسا.
وشاء المولى -سبحانه- أن يكون الامتحان أعظم، فاختطفت المنيّة الأب الحنون الذي لطالما قام عن مائدة الطعام بعد تناول لقمة أو لقمتين مدّعيا أنّه شبع، ليفسح السبيل للصغار حتى يملؤوا بطونهم الضامرة.
غادرهم إلى دار البقاء وهو في ريعان الشباب. حمله على الأعناق أربعة بعدما لفّوه في خرقة كتّان بيضاء تصدّق بها عليه أحد المحسنين، وتركهم أيتاما جياعا لا يملكون قوت يومهم.
هنا استغلّ الفقر الفرصة فخيّم بظلمته فوق بيتهم المهترئ، وأحضر معه زوجه الفاقة فحطّت في كوخهم رحالها، ووضعت جانبا رزمتها، وجلست القرفصاء كعجوز شمطاء.
كانت الوالدة المسكينة تذهب للعمل في البيوت راجية أن تأتيهم بلقمة تذهب عنهم السغب. فتأتي تارة بمال وطعام وأغراض، وتارة تعود محزونة خاوية الوفاض.
لمّا بلغ صغيرها أيوب معها السعي، كان يذهب -أيام العطل- للعمل مع التجّار والحرفين علّه يأتي بما يصلح من حال أسرته. فكان الباعة والمهنيون يجودون بدراهم معدودة يعطونه إياها شفقة وهم فيه من الزاهدين.
تدافعوا مع الفقر وناصبوه العداء… فصرعهم مرارا، لكنّهم أبدا لم يستسلموا.
وكان أشقّ شيء على الوالدة المسكينة -رحمها الله تعالى- هو عيد الأضحى، لذلك قامت بشراء نعجة ربّوها معهم في منزلهم المتواضع لتلد لهم ما يضحون به.
وأصبح بيتهم الصغير ضيعة فيها نعجة وبضع دجاجات يبضن لهم، فتارة يقتاتون على ذلك البيض، وتارة يبيعونه ليشتروا به بعض احتياجاتهم.
وبما أنهم لم يكونوا يملكون ثمن علف الشاة، ولم تكن لهم أرض فلاحية يرعونها فيها، فإنّ الأمّ الحنون كانت ترسل أيوب عند بائع خُضار في حيّهم يسأله أن يعطيه ما يفسد عنده من خضر وما يفضل من أوراقها وحشائشها.
فكان” أبي ميلود” خضري حيّهم يستقبله بالبشاشة والابتسام، ويجمع لي كيسا من الخضر والحشائش ويعطيه إياه بأدب واحترام، ثمّ يقول له كلمة لطالما ردّدها على مسامع الصغير: “خذ هذا… وانظر إن كان فيه ما يصلح لك يا غلام”.
كان الصغير يعود إلى البيت فرحا بما أعطاه الخُضري، سعيدا بالطريقة التي كان يعامله بها. فإذا ما رأت الوالدة -رحمها الله تعالى- فرحته تلك أمطرت “أبي ميلود” بوابل صيّب من الدعاء الطيب.
ومرّت السّنون، وكبر الصغير أيوب وأتمّ دراسته وتوظّف، وجاد المولى الكريم عليه بفضله فأصبح ميسور الحال. وكان يزور والدة وأخواته بانتظام رغم بعد المسافة بين المدينة التي استقرّ بها ومدينته التي نشأ فيها.
ذات يوم وهو عند الوالدة، خرج يتجوّل، فإذا عينه ترمق شبح شخص لا يُنسى. شبح من أسدى إليه معروفا في وقت شدّة وضيق.
إنّه “أبي ميلود”… نعم هو… خضريّ حيّهم… نعم لقد شاب شعره، وانحنى ظهره، وضعف بصره، وتغيّر شكله… لكنّه هو…
نعم… لم يعد خضريّا. فقد استجاب الله تعالى دعوات أمّ أيّوب وأصابت سهام الليل هدفها، فدرس أولاد “أبي ميلود” وتقلّدوا مناصب سامية في الدولة وبروا به أيّما برّ. وهو الآن في بحبوحة من العيش. لكنّه -بالنسبة لأيوب- سيبقى اللمسة الطيّبة التي كانت تقلّص من حدّة الحاجة وكلكل الافتقار، سيبقى البسمة الجميلة التي كانت تهب الأمل وتقلّص ألم الاحتقار، سيبقى -دائما- ذاك الرجل الفاضل الذي كان يستقبله بالترحاب ويعطيه الخضر بلا نهر ولا عتاب.
تقدّم نحوه، قال له: كيف حالك “أبي ميلود”؟
أجابه بصوت قد أنهكته كثرة الصراخ أيام بيع الخضر: بخير يا ولدي.
قال له: هل عرفتني؟
تأمّل الشيخ وجه الشاب طويلا دون جدوى، فقد ضعف البصر. ثم قال: لا يا ولدي…
قال: كنت آتيك صغيرا فأطلب منك أن تعطيني ما فضُل عنك من بقايا الخضراوات لأطعم نعجتنا وصغارها.
قال: ابن السيد علي؟
قال: نعم.
قال: تلك أيام مضت. ثمّ سأله عن أحواله وعن أهله، وفرح كثيرا لمّا علم بأن أيوب قد اشتغل وأصبح موظفا له دخل قار.
أخرج أيوب من جيبه مالا وأعطاه للشيخ وقال له: “هذه هدية بسيطة منّي إليك أيها الرجل الطيب”. تمنّع الشيخ عن أخذها وأقسم ألا تدخل جيبه. هنا قال له أيوب وهو يحابس الدمع المنهمر من عينيه: أتذكر يا أبي ميلود حينما كنت تعطيني بقايا الخضر لأطعم شاتنا… فبين التالف منها كنّا نجد خضرا سليمة كانت هي طعامنا… لقد أطعمتنا لسنوات يا أبي ميلود وأنت لا تدري. هنا قال الشيخ: لقد كنت أعلم يا بني… وكنت أضع وسط التالف من الخضر، خضرا صالحة حتى أقيكم حرج المسألة. يا بني… ما فعلناه فعلناه… وللآخرة قدّمناه. ولا حاجة لي في هديتك فقد أغنانا الله عز وجلّ من فضله. لكنّي أوصيك بوالدتك خيرا كثيرا فقد عانت من أجلكم أشدّ المعاناة، واحترقت كالشمع لتنير لكم دروب الحياة.
ألا سلام على هذه الأرواح الطاهرة المعطاءة التي يجعلها الله بلسما للخلق وشفاء…
ألا سلام على أناس لم يتناسوا الجميل وجازوا أهله شكرا وعرفانا ووفاء…
ألا سلام على شموع حياتنا وأقمار أعمارنا… أمهات وآباء…