كان قد تجاوز الأربعين من عمره حينما مسّه الشيطان بنصب وعذاب، وانقضّ على جسده النحيف سرطان خبيث فنخره كما ينخر السوس الأخشاب.
لكن “سليمان” لم يستسلم، وظلّ يقاوم المرض القاتل، ودخل في حرب ضروس مع عدو شرس أعيا الأطباء، وأضنى المرضى.
ولم يأل جهدا في متابعة العلاج الذي كان يتنقّل لأجله من مدينته النائية إلى العاصمة الاقتصادية ممتطيا ظهر حافلات مهترئة، في رحلات شاقّة مرهقة. وعاش المسكين قرابة العامين بين تحسّن وانتكاس، ومصاريف باهظة جرّته جرّا نحو الإفلاس.
استنزفت العملية الجراحية وحصص العلاج الكيميائي والرحلات “الماراثونية” نحو مدينة الدار البيضاء كلّ مدخراته.
وما أصعب المرض إن اقترن بالعوز، وما أشدّ وطأته إن كانت العين بصيرة واليد قصيرة، وجَارَ المسؤول، وتخلى الأخ، وخذل الصديق.
عانى سليمان وعانت معه أسرته، باعوا كلّ ما يمكن بيعه. وكان شعار زوجه وأولاده في هذه المحنة هو: “فلتُرفع عن أبينا الأضرار، وليفن كل ما في الدار”. كان المسكين يرى ما يقومون به من تضحيات، وما يبيعون من ممتلكات. فيبكي قائلا: “سوف أموت وأترككم عالة تتكففون النّاس”، فيجيبه أبناؤه وبناته بثبات وجلد: “فداك أرواحنا يا أبتاه!”
بعد تضرع واستغفار، وإنابة وانكسار، ووقوف بالأسحار على باب الملك الغفّار، ودعاء افتقار بليل ونهار، انفرجت الكربة وانجلت الأضرار. ونجا سليمان من براثن الداء الفتّاك، وعادت الحياة إلى جسده النحيف بعد إشراف على الهلاك.
وهو في فترة النقاهة، بلغه خبر موت أب أحد زملائه في العمل – وقد كانوا له سندا وظهرا طيلة فترة مرضه – في مدينة بعيدة عن مدينته. فرأى من باب الوفاء، أن يسافر لتقديم واجب العزاء.
وبينما هو جالس في الحافلة صعد رجل في عقده الخامس يحمل حقيبتين. جلس إلى جواره، ووضع حقيبة في عنقه، والأخرى حطّها بعناية بين قدميه حتى يتذكّرها ولا ينساها.
حينما بلغت الحافلة مدينة في الطريق الموصلة إلى وجهته، توقفت في المحطّة، فنزل صاحب الحقيبتين. وبعد استراحة قصيرة استأنف السائق رحلته، لكن صاحب الحقيبتين لم يصعد.
وانتبه السيد سليمان إلى أنّ صاحبه الذي جلس إلى جنبه قد ترك الحقيبة التي وضع عند قدميه.
أخذه أول الأمر شكّ وريبة؛ تُرى هل نسيها أم تركها عمدا؟ ما الذي يملأ جوف هذه الحقيبة؟ أفي الأمر دسيسة؟ تساؤلات عدّة بعثرت تفكير سليمان. وفي الأخير قرّر فتح الحقيبة…
وها هو ذا يفتحها بحذر شديد، ويطلّ من فتحة صغيرة على محتوى الحقيبة العجيبة. أعاد إغلاقها بسرعة، اضطرب قلبه، اقشعرّ جلده، وارتعدت فرائصه.
لقد كانت الحقيبة حُبلى بالأوراق النقدية، إنّها ملايين الأوراق الزرقاء الناعمة التي يتناحر لأجلها البشر، وتُباع وتُشترى بها الذمم كما الخضر، وتهدى لأجلها العفّة على سرر الخطيئة والعهر، بل وتباع مقابلها الأوطان وأبناء الأوطان بلا حياء ولا خَفَر.
وتجلى إبليس ناصحا: “هذا رزق ساقه الله إليك يا سليمان، هذا فرج من عند الله ليعوضك عمّا ضاع منك في مستشفيات من لا يرقبون في مسلم إلاّ ولا ذمّة. احمد الله واشكره على هذا العطاء الجزيل…”.
ويستعيذ سليمان بالله من الشيطان الرجيم، ويُحوقل…
ماذا لو كانت هذه الأموال دينا على الرجل جاء ليردها إلى أصحابها؟ ماذا لو اكتشف ضياعها؟ ماذا سيحدث لهذا المسكين؟ …
ويوسوس إبليس من جديد: “لمَ تريد أن تقحم نفسك في مهاوٍ أنت في غنى عنها؟ ماذا لو كان الرجل سارقا لهاته الملايين، فتذهب لتردّها إليه فيُمسك بك رجال الأمن؟ وعلى كلّ حال أنت لم تسرقها منه، أنت وجدتها واللُّقَطَة حلال عليك…”.
“أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” همهم سليمان.
وصلت الحافلة إلى الوجهة التي يريد. نزل. ذهب إلى بيت الميت، عزّى زميله في مصابه الجلل، ثمّ همّ بالرحيل على عجل. ترجّاه صديقه أن يبقى ليحضر حفل التأبين، لكنّه اعتذر قائلا: عندي أمر مستعجل. وعاد أدراجه نحو المدينة التي بها صاحب الحقيبة قد نزل.
وهو في الطريق كان يحدّث نفسه قائلا: “لنفرض أنّي غِلتُ هذا المال، ثمّ في الطريق وقعت لنا حادثة فلفظت أنفاسي، فماذا سأقول لربي إذا وقفت بين يديه؟ بم أجيبه حينما يقول لي: ألم أنجك يا عبدي من سقمك وقد أشرفت على الهلاك؟ ألم أعطك فرصة لتعمل صالحا فماذا دهاك؟ أغرّك حلمي أم ظننت أني لست أراك؟
يا سليمان أين الإيمان؟ أليس من تمام الإيمان أن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك؟ كيف تأخذ مالا أنت تعرف صاحبه؟ ماذا لو جُنّ الرجل؟ ماذا لو قضى نحبه حسرة؟…”.
طيلة الطريق وسليمان يصارع نفسه والشيطان، وانتصر في الأخير ضميرُه، انتصر إيمانه، وقرر أن يعيد الحقيبة إلى أهلها.
حينما وطئت قدماه المحطة التي نزل بها صاحب الحقيبة، جال ببصره يمينا وشمالا، فإذا به يرى المسكينَ يسير تارة ذات اليمين وتارة ذات الشمال، يحدّث نفسه كالمجنون، وما به جنون، إلا هول صدمة فقدِ تلك الملايين.
كان سليمان قد وضع الحقيبة في كيس بلاستيكي أسود لئلا تشدّ انتباه النّاس، فلما رأى صاحبه على تلك الحال توجه نحوه وسأله بكل أدب ولباقة: “ما بك يا أخي؟ أراك في مزاج سيء”. أجابه بلا تردد: “والله يا أخي إني في مصيبة عظيمة، فقد فقدت حقيبة فيها مبلغ كبير من المال اقترضته لأشتري به بيتا للعيال. الآن؛ لا مال، ولا بيت، ولا راحة بال”.
ففتح سليمان الكيس وقال: أهكذا هي حقيبتك؟
أجاب الرجل: كأنها هي…
قال سليمان: خذها ولا تخف، والله ما فتشنا لها كنفا، ولا نقصنا منها شيئا.
أخذ الرجل حقيبته، عانق سليمان، قبّل رأسه، أقسم عليه ليذهبن معه إلى البيت.
اعتذر سليمان وقال: “قد فعلنا ما فعلناه ابتغاء وجه الله، ما نريد منكم جزاء ولا شكورا، إنّا نخاف من ربّنا يوما عبوسا قمطريرا”.
قال سليمان: وأخذ الرجل ماله ورحل، ما أعطاني مكافأة ولم أسأل، وحتى لو فعل، لم أكن لأقبل. وعدت أدراجي إلى مدينتي ووالله ما معي إلا ثمن تذكرة الحافلة، لكني كنت أشعر بأنّي أغنى وأسعد رجل في العالم.
ولست أرى السعادة جمع مالٍ
ولكن التقي هو السعيدُ
وتقوى الله خير الزاد ذخـــــراً
وعند الله للأتقى مزيدُ
ألا سلام على الأمناء.
سلام على القلوب النقيّة التي لا يغريها لمعان الذهب والفضة، ولا تفتنها الأوراق الناعمة الزرقاء.
سلام على أرواح تحبّ الخير للغير، شيمتها المحبّة والوفاء، والبذل والعطاء.
سلام على أرواح تراقب الله تعالى في سرّاءٍ وضرّاء…
وصلى الله وسلّم على خاتم الرسل والأنبياء، وإمام الأولياء، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الفناء.