يظن الواحد منّا أحيانا أن لا أحد أصيب بما أصيب به من محن ومصائب، وأن لا مخلوق على وجه البسيطة تلقى مثلما تلقى على أم رأسه من رزايا ونوائب، حتى أنّه لو تعسّر كسبه، أو مرضت زوجه، أو مات والده أو ولده، ضاقت عليه الدنيا بما رحبت ونطق لسانه كفرا وجحودا، وخاطب ربّه بقلة أدب ناسيا ما أنعم به عليه كرما وجودا، وقال: “ألم تجد –يا ربي- في الدنيا من يستحقّ كلّ هذه المصائب غيري؟”، “أليس لك عبد تعذّبه سواي؟”… أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، إنها كلمة هو قائلها وأنا منها براء.
ولو أنّه سمع قصص النّاس وما عاشوه من آلام وفواجع، وما تحملوه من بلايا وقوارع، لسكت عن الشكوى، ووجد السلوى، ورفع أكفّ الضراعة إلى المولى، سائلا عفوه، شاكرا أنعمه، حامدا لطفه.
أحكي لكم اليوم قصة سعيد من السعداء، أحكيها مستعملا الضمير المتصل “تُ” عوض الضمير المنفصل هو. فقد جاءني يوما يستفرغ في إناء سمعي سمّا تجرّعه لسنين، ويتهوّع في قصعة إنصاتي علقما طعمه مذ زغردت جدّته فرحا بولادته، فاقشعرّ من هول ما سمعت جلدي، وضاق صدري، وتألم قلبي، وقال قلمي وقد سال من الأسى مداده: ألن تكتب؟ إن لم تكن ستكتب فاكسرني.
وها أنا ذا أكتب لئلاّ أفقد قلمي، أكتب معبّرا عن ألمي، أكتب وقد اخترت أن أكون ذلك الرجل، حتى أنقل لك -أخي القارئ- حمولة الكلمات التي سمعتها منه، وألقي في خلدك عصارة فؤاد ذاق من الويلات ما يشيب له الوليد، وتحمّل من صروف الدهر ما لا يتحمّله إلا القوي الشديد، علّك تكون عبدا شكورا عن طريق الحمد لا تحيد.
كانت البداية في نهاية الستينيات من القرن الماضي، حينما تزوّج أبي أمّي في مدينة صغيرة من مدن المغرب المنسي. كان أبي خضريا يتتبّع الأسواق الأسبوعية؛ فيوم الإثنين في “شتوكة”، ويوم الثلاثاء في “سيدي بنور”، ويوم الأربعاء في “العونات”، ويوم الخميس في “الزمامرة”، ويوم الجمعة في “السحايم”، ويوم السبت في “الذويب”، ويوم الأحد في “أولاد فرج” أو “ولاد عيسى”. وهكذا دواليك. وكان رجلا طيبا من عمّار المسجد.
كانت أمي -ولا زالت- سليطة اللسان، فحصل بينها وبين أبي شنآن، فتركته حتى كان في السوق بين الباعة – وكان السوق في ذلك اليوم في المنطقة التي نسكن فيها – فأسمعته من طيب الكلام وجميل البيان، ما أضحك عليه الأقران والجيران، حتى قال له صاحب له: ”أامرأة هذه أم ثعبان؟ “… ”والله إنّك لفي بئر بلا قعر يا فلان”.
غضب أبي يومها غضبا شديدا فطلّق أمّي -أمام الملأ- طلاقا ثلاثا لا رجعة فيه. وعادت أمي من السوق بخفّي حنين، وقامت بتشتيت أسرة، وتشريد طفلين.
واقتسم أبواي حصيلة زواجهما غير المبارك؛ فذهبتُ مع أبي، وذهب أخي الأصغر منّي مع أمّي. وهكذا تنافرت حبّات العقد وتناثرت، وأصبح شملنا شتاتا، وأضحت أسرتنا في خبر كان.
بعد أشهر قليلة تزوّج أبي. فلما بلغ أمّي الخبر، سارعت في اصطياد زوج على المقاس الذي تريد. أدخلته بيتها ثمّ لفته بخيوطها كالعنكبوت فأضحى جثّة هامدة، يرى ما يجري حوله، يسمع، لكن لا يمكنه فعل شيء. رفض إخوته وأخواته هذا الزواج، نصحوه، فلمّا لم يستجب قاطعوه. فلما قاطعوه انفردت به وأحكمت عليه قبضتها.
كان أخي الأصغر يعيش معها؛ فأهملته، وقست عليه، وكلما اقترف المسكين ذنبا، صبّت عليه جامّ غضبها، فوجد الشارع أرحب صدرا منها وأرحم قلبا، فاتخذه أما وأبا.
كان آل زوجها بعدما يئسوا منه إذا التقوه قالوا: “إنها تستغلك فقط، لمَ لمْ تلد لك ولدا؟ هي عندها ولدان، وأنت أين هو نسلك؟ أين هي ذريتك؟ من يكون لك إن كبرت وهرمت؟ فلما بلغها ذلك، أوصت صحيبات لها أن إذا جاءتكم من حبلت من حرام تريد التخلّص من لقيطها فآذنّني. فما مضى وقت طويل حتى جئنها بشابّة تحمل مولودا ذكرا تريد التخلّص منه.
كانت أمّي أدهى من إبليس -أستغفر الله- فقد ألزمت زوجها بالزواج من تلك الزانية، وأسكنتها معها في البيت بضعة أشهر، ثمّ أدخلت الصبي في سجلّ الحالة المدنية وجعلته ابنهما. ثمّ لما قضت حاجتها، وحقّقت بغيتها، أمرت زوجها أن يطلّق أمّ الولد فلم يتردّدْ، ولو تردّدَ لتردَّى.
أعطت الفتاة بعض المال والثياب ثمّ أمرتها أن تتوارى عن الأنظار، وأن تترك المدينة بلا رجعة. وهكذا هزمت -في زعمها- آل زوجها، وانتصرت عليهم بالضربة القاضية.
جعلت من مولود نغِلٍ ابنا وسيدا، وجعلت من ابنها الشرعي -أخي المسكين- عبدا…
أطوي هذه الصفحة طيّا سريعا، فقد ضاق صدري وتلبّدت سماء عيناي وأكاد أمطر…
كنت أعيش مع أبي في هناء إلى أن تزوّج بامرأة اسمها “صفيّة”، ووالله ما كانت تمتّ للصفاء بصلة، بل كانت متلوّنة كالحرباء. لها سبعة أوجه؛ تظهر لأبي وداعة الحمل، وتظهر لي شراسة الذئب ووطأة الجمل.
ولدتْ “صْفيّة” لأبي مولودا ذكرا بعد عام من زواجها، ثم أتبعت بثان وثالث، وجعلت منّي أمتها. والله الذي لا إله غيره كنت لا أنام حتى أغسل الأواني كلّها وأكنس البيت. وفي الصباح كنت أذهب إلى المدرسة، فإذا ما عدت وجدت “لالا صفية” قد حضّرت لي عقابا عوض أن تعدّ لي طعاما، كانت يوميا تجمع لي كومة ثياب عليّ غسلها، وقصعة عجين عليّ خبزها، وأثاث بيت عليّ نفض غباره، و…
كنت طفلا لم يتجاوز عمره الحادية عشر، غضّا عظمه، نحيفا جسمه، قصيرة قامته، ومع ذلك لم تكن ترحمني “صفية” بل كانت ترهقني بالعمل ليل نهار، ولا تترك لي وقتا لمراجعة دروسي أو اللعب كما يلعب الصغار.
آه لو رأيتني -عزيزي القارئ- وقد حملت أحد إخوتي الثلاثة على ظهري، ووقفت على كرسي حتى أبلغ حوض غسل الأواني.. والله لو رأيتني لرثيتني.
ورغم أنّي كنت أمتها المطيعة، فإنها لم تكن تتوقف عن زرع بذور الفتنة بيني وبين والدي، وكانت تحرّضه عليّ وتؤلبّه ضدّي.
كان المسكين عبدها المطيع، وخروفها الوديع، فلا يسمعُ إلا صوتَها، ولا يصدّقُ إلا قولَها، فهذه الحرباء عرفت نقطة ضعف أبي فاستغلتها باحتراف، وخالفت طبع أمّي الحاد، وأظهرت الرقّة والبشبشة والتَّهواد.
ولطالما طردني من البيت وأنا صبي دون الخامسة عشر من العمر، فلولا العناية الربّانية والألطاف الإلهية لكنت من الهالكين.
جزى الله عنّي إخوة في الله، آووني حين طردني الوالد، وواسوني، واحتضنوني، وأطعموني، وألبسوني، وأعظم من هذا كلّه أن على الله دلّوني، وبه سبحانه ذكّروني، وعلى بابه تعالى أوقفوني، علّموني محبته ومحبة رسوله، وعلّموني حسن التوكّل عليه، فو الله ما خانوني ولا خذلوني.
جَزَى اللَّهُ عَنَّا جَعْفَرًا حِينَ أَزْلَفَـــــــتْ
بِنَا نَعْلُنَا فِي الْوَاطِئِينَ فَزَلَّتِ
همُ خلطونا بالنفوس وألــــــــــــجأوا
إلى حُجرات أدفأت وأظلّــتِ
أَبَوْا أَنْ يَمَلُّونَا وَلَوْ أَنَّ أُمَّنَـــــــــــــــا
تُلاقِي الَّذِي يَلْقَوْنَ مِنَّا لَمَلَّتِ
وقالوا هلمَّ الدارَ حتى تبينـــــــــــــوا
وتنجَلي الغَمَاءُ عمَّا تجلّـــَتِ
ومن بعدما كنا لسلمى وأهلـــــــــــها
قطيناً وملتنا البلادُ وملــــتِ
سنجزي بإحسانِ الأيادي التي مضت
لها عِندنا كبَّرَت وأهَلّــــــتِ 1
صبّرت نفسي على غفلة أبي، وصبرت على جور زوجه “صفيّة” حتى توفتها ذات يوم المنيّة، وغادرت الدنيا مكبّلة بحبال ظلمي مكفّنة في سوء الطويّة، وعند الله التلاقي.
وما هي إلا أشهر حتى تزوّج أبي من جديد، فقد تركت “صفيّة” خلفها ثلاث صبية يتضاغون، فعلتُ ما بوسعي نحوهم، لكنّهم كانوا يحتاجون إلى أمّ تعطيهم حنانا ورحمة، تعدّ طعامهم، تغسل ثيابهم، وتنظف أبدانهم.
وجاءت «يزا» زوجة أبي الجديدة، لم تكن ذات حسب ولا مال، ولم تكن شابّة ولا لها حظ من الجمال، فما يُهمّ أبي هو صون العرض ورعاية الأطفال.
لم يخب ظنّي في هذه الزوجة الجديدة، فمذ رأيتها للوهلة الأولى رأيت فيها من سبقتها، وكذلك كان. إذ لم تمض علينا “سبعة أيام المشمش” حتى كشفت السيدة «يزا» عن أنيابها، وأظهرت لنا وجهها الحقيقي، وقالت للوالد بكل صراحة: “انظر يا سيدي؛ أنا أتيتك زوجةً، لا خادمة ومربّية أطفال”.
همهمَ الوالد وما دمدم، وحمل جلبابه على ظهره والبابَ يمّم، فلمّا خرج التفت إليّ وابتسم، وقال لي: “يا بُنيّ؛ ستدعو لأمك “صفية” وعليها ستترحّم. يا ولدي؛ أبشر فأمك الجديدة تنفث النيران والحمم”.
و”كما تدين تدان”، فكما فعلت “صفية” ولم ترقب فيّ إلاّ ولا ذمّة، ولم ترحم صغيرا طُلّقت أمّه، كذلك فعلت “يزّا” بصغار “صفيّة”، ولم ترحم أيتاما ماتت أمّهم، ولا سيما حينما حكت لها بعض جاراتنا عمّا كانت تفعله بي.
كانت “يزا” على عكس “صفية” قليلة الكلام، نائمة على الدوام، لا يهمّها جوع الصبية واتساخ ثيابهم، فكانت تستمتع بموسيقى بكائهم من الجوع، وندائهم على أمّهم من الألم، وكأنّما هي وصلة طرب غرناطي بعد تناول وجبة كسكس يوم الأحد.
كنت حينها أتابع دراستي في السنة الأولى ثانوي، وبما أنّ الله منّ عليّ بإخوة في الله فتحوا لي قلوبهم قبل بيتهم، فإنّي كنت أفضّل أن أرتاح عندهم في وقت الظهيرة وأراجع دروسي -وإن لم أتناول وجبة الغذاء- على أن أعود إلى بيتِ أبي فتذيقني زوجه ما لذّ وطاب من شتم وسباب، أو تؤلّب عليّ الوالد فيتهدّدني بالعقاب.
لكن هذا لا يعني أنّي قضيت معها أربع سنوات دون أن أكنس البيت، أو أغسل الثياب والأواني، أو أحمل إخوتي على ظهري كالمرأة وأنا أقوم بأشغال البيت.
ما أفلحت “يزّا” في شيء غير أنّها أثقلت أبي بطفلين اثنين، ثمّ رحلت عن الدنيا وهي تلد مولودها الثالث الذي كان بنتا لطالما تمنّتها.
رُزئ أبي في زوجه، وأظلمت الدنيا في عينيه، وما رأيته يوما يبكي حتى رأيته يحمل طفلته الجديدة ودموعه تنثال على خدّه… بكيت لبكائه، وتألمت لألمه.
كان أبي قد تحسّن حاله، وفتح دكّانه في المدينة، ولم يعد يتتبّع الأسواق الأسبوعية. وكان هادئا ظريفا، وكانت النساء أكثر زبائنه. لذلك لم يتأخر طويلا حتى وجد زوجا ثالثة.
وحلّت “الطام” ضيفة علينا لتستلم مهامّ من سبقنها بغير إحسان.
كان حملها ثقيلا؛ أبي، وأنا، وأبناء “صفية” الثلاث، وأبناء” يزّا” الثلاث.
كانت “الطام” صحراوية الأصل، سوداء البشرة، بيضاء القلب على حدّة فيها. كانت تعاملنا بلطف، وتطعمنا بحب، وتعاملنا معاملة الأم.
واستقرّ حال إخوتي، وقلّ بكاؤهم. نعم كان من الصعب على “الطام” أن تلبي حاجات الأطفال الستّة كلها، لكنها كانت تبذل قصارى جهدها.
قضينا عاما في الجنّة، أنستنا أمّنا الجديدة آلام من سبقنها. لكنّ الدنيا لا تستقر على حال، فقد حبلت “الطام” وكانت فترة الوحم عليها شديدة فتغيّر نحونا سلوكها، واشتدّت حدّتها، وخشن تعاملها، وأصبحت فظة غليظة القلب، فتألم الكبار والصغار.
وبعد تسعة أشهر وضعت “الطام” ابنتها الأولى، ثم بعد عامين أضافت الثانية، ثمّ جاءت بعد ذلك فتاة ثالثة، وأصبح بيتنا كبيت الأرنب. صغيرة مساحته، كثيرة أفواهه، كبيرة نفقاته.
وبطبيعة الحال، تغيّرت معاملتها معنا، فليس الربيب كالولد. وأصبحت تفضّل بناتها على إخوتي الستّة. كنت أتألم لأجلهم، وأبكي لحالهم، لذلك كنت أحاول أن أعوّضهم وأعتني بهم.
وانحنى ظهر الوالد تحت وطأة هذا الحمل، وسمعته يئطّ من شدّة الثِّقل، فاضطررت لمغادرة المدرسة والدخول -قبل الأوان- إلى سوق الشغل.
عملت في ورشة ميكانيكي رثى لحالنا حينما أخبرته. وأصبحتُ آخذ أجرة زهيدة في نهاية الأسبوع، على الرغم من قلتها إلا أنّها كانت تدفع عربة أبي نحو الأمام.
وقلّت مشاكلي مع زوج أبي، فقد كنت أعطيها نصيبا من أجرتي الزهيدة كلّ نهاية أسبوع، فكانت تفرح وتدعو لي.
ومع مرور الأيام اكتسبت خبرة في العمل، فائتمنني معلّمي على الورشة وضاعف لي الأجرة. فأكرمت إخوتي، وكم كنت أحسّ بالسعادة حينما أراهم يضحكون ويلعبون ويغنّون.
كانت قطع الحلوى الرخيصة الثمن -التي كنت أشتريها لهم- ترسم على شفاه أولئك الأيتام بسمة أغلى من العالم بأسره، وكانت حبّات الحمص والفول السوداني على زهادة قيمتها تملأ بيتنا سعادة وحبورا.
كنت أرى تيك الأعين الصغيرة وهي تغمرني بالحبّ، وتيك الشفاه اليابسة وهي توجّه لي -في صمت- رسائل الشكر وهي تلتهم حبّات الحمص، والأضراس الصغيرة من خلفها تسحق حبيبات “الكاوكاو”، كانت دموعي حينها تنساب على خدّاي طربا، ولساني يلهج بحمد الله مردّدا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا.
ومرت السنوات سراعا على مرارتها، وكبرتُ وكبر إخوتي وأخواتي كذلك، وأصبح لكلّ واحد بيته وعيشه وهمّه.
وفي العام 2019 بتاريخ النصارى رحل الوالد عن دنيا الكبد، رحل ومشى في جنازته المئات، وحضر حفل تأبينه المئات كذلك. وشهد له الجيران بحسن الجوار وعمارة المسجد وحسن الخلق.
كان الوالد رحمه الله تعالى يوصيني بزيارة الوالدة والإحسان إليها، فكنت أقول له: “يا أبت؛ إنّي لا أشعر تجاهها بأي شيء، فأنت كنت لي الأب والأم، أما هي فلم أعرفها”، فكان يجيبني بهدوء قائلا: “هي أمك على كل حال، والله أوصى بها خيرا”.
كنت أزور أمّي بين الفينة والأخرى، وكنت أتعهّدها في الأعياد والمناسبات، لكنها بالنسبة لقلبي امرأة غريبة لا يعرفها.
في السنوات الأخيرة، أصبحت أمّي أكثر عدوانية، فهجرها زوجها، وطردها النّغِل الذي جعلته أعزّ من ولدها. فلم أجد بدّا من إحضارها إلى بيتي لتعيش معي…فذاك واجبي نحوها. لكنّها حينما حلّت أحالت ليلنا نهارا، وسعت في إشعال نار الفتنة في بيتنا، وأخذت تفتري على زوجي وتتهمها بأمور شنيعة، وتكذب وهي تنظر في عيناي دون أن يرفّ لها جفن.
بعد أشهر من المعاناة، والمرابطة الليلية لئلا تقوم بفعل جنوني، قرّرت أمّي أن تأتينا بزوجها ليسكن معنا هو كذلك، فلما رفضنا ذلك -علما أنّ بيتنا بيت صغير من بيوت السكن العشوائي- هدّدتنا بالانتحار.
بعد صبر واصطبار، وتضرع إلى المولى في اضطرار، ووقوف بين يديه سبحانه في خلوة الأسحار، أن يختار لنا أحسن اختيار، وأن يجعل لنا حلاّ بلا عقوق ولا أضرار، حملت الوالدة صُرّتَها وكشفت عنّا صَرّتَها، وانتقلت للعيش عند أخت لها، لكن ما فتئت أن أشعلت عليهم البيت نارا، فطردوها، فانتقلت إلى بيت أختها الثانية، ففعلت ما فعلت معنا، فطردتها هي الأخرى.
قرّرنا -أنا وأخي- أن نجد حلاّ مناسبا، فاكترينا لها بيتا هي وزوجها وفرشناه حسب استطاعتنا، وطلبنا إليهما أن ينتقلا إليه، وأخبرناهما أن مصاريف الكراء والأكل علينا. لكن زوجها المسكين ما عاد يطيق قربها، فهو يفضّل الشارع على بيت يجمعه وإياها.
والله إنّي لفي كرب عظيم، بالله عليك -يا قارئ قصتي- أخبرني ماذا أفعل؟ إن أعدتها إلى بيتي دمرته، وإن تركتها تتنقّل بين بيوت النّاس أخاف أن أكون عاقّا.
فاللهم اجعل لي من كربي فرجا، ومن همّي مخرجا، وارفع عنّي ضيقا وحرجا بحقّ من أنرت به الأكوان حتى امتلأت سُرجا، وجعلته هاديا للخلق فمن اهتدى بهديه نجا.