كانت جالسة مع صغارها في بيتها المهترئ الوحيد – المغطى بالقصدير، المتواجد على مدخل بحيرة أفنورير- حينما مررنا بها، لم تعرنا اهتماما ولم نعرها.
مررنا بها وبصغارها مرور الكرام، ومضينا نحو البحيرة دون تحية أو سلام، بعد رحلة رائعة وسط جبال الأطلس المتوسط حيث كانت الأشجار الباسقة الخضراء تقف بانتظام، تحيط بنا ذات اليمين وذات الشمال وكأننا موكب ملكي تستقبله الجماهير بإجلال واحترام. وكان الثلج يكسو الأرض ببياض خالص جعلها تبدو كعروس يوم زفافها بفارس الأحلام. أما أشعة الشمس المشاكسة فقد كانت تبحث عن منفذ وسط ذلك الزحام، لتنسلّ بين الأشجار الكثيفة حتى تحلّي العروس بلونها الأصفر الذهبي فتزيدها جمالا ورونقا، وبهاء وتألقا. فلم نملك – ونحن وسط هذه الجنّة الأرضية – إلا أن نقول: “تبارك الله أحسن الخالقين”.
وقفنا أمام البحيرة التي ذهب كلّها ولم يبق منها إلا نزر يسير، تفكّرنا في خلق السماوات والأرض وقلنا: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
كانت هذه البحيرة الشاسعة -في الماضي- تمتد على مساحة تقدر بـ300 هكتار، أمّا الآن فلم تعد إلا بِركة صغيرة تشكو بثّها وحزنها إلى الله قائلة: ربّنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا.. لا إله إلا أنت سبحانك.. إني كنت من الظالمين.
عدنا أدراجنا وركبنا السيارات لنتّجه نحو بحيرة ويوان، وعند المدخل الذي ولجنا منه، كان هناك سيارة كبيرة لسائحين أجنبيين حاولت المرأة التي مررنا بها أن تتواصل معهم، لكنها لم تفلح؛ فهم لا يفهمون العربية ولا الأمازيغية، وهي لا علم لها بالإنجليزية.
تقدّم نحوهم أحد من كانوا معنا فحدّث المرأة وعلم منها ما تريد أن تبلّغه للسائحين، ثمّ قام بترجمة ذلك بالإنجليزية فتمّ التواصل، وتفاهم الطرفان.
بعد ذهاب السائحين تكلّم أحد أصحابنا مع هذه السيدة باللغة الأمازيغية، فإذا بها قد فُكّت عقدتها، وأطلق لسانها. شكت إليهم حالها، ونثرت أمامهم ألمها وأملها. باحت لهم بمكنونات الفؤاد، وشكت إليهم ظلم العباد، وكادت تصيح عاليا: الله الله في المسؤولين.. الله الله في المنتخبين.. أيتولّون أمرنا وينسوننا ويتناسوننا.
كنت في سيارة أخرى أراقب ما يجري؛ كانت امرأة شاحبة الوجه، نحيفة القوام، لم تكن عجوزا ولا مسنّة، بين الثلاثين والأربعين، أو لعلّها تجاوزت الأربعين بقليل. رثٌّ ثوبها، سمِلٌ خمارها، في قدميها نعل بلاستيكي أسود لا يطاق في حرّ ولا يقي من قرّ.
رأيتها وهي تذرف الدموع أمامهم، رأيتها وهي تتوسّل إليهم، سمعتها وهي تقول لهم: انزلوا لتشربوا شايا وتأكلوا خبزا وبيضا. لم أكن أعلم بعد ما قصتها.
انصرفت باكية تنظر إلينا بأمل..
أتى أحد إخواننا فحكى لنا قصتها وما دار بينهم وبينها، لم نتمالك أنفسنا، بكينا، هلّلنا، حوقلنا، تجرّعنا غصّة ألم أنسانا ضحك الرحلة ومتعتها.
تحرّكت السيارات، وطلبت من أخينا صاحب السيارة التي كنّا نركبها أن يتوقف للحظة، ناديتها وكانت قد توجهت نحو كوخها الصغير المجاور لبناء وظيفي فخم أظنه لوزارة الفلاحة والصيد البحري والمياه والغابات، توقفت فذهبت إليها مسرعا، واسيتها ببعض المال فتمنّعت وقبضت يدها عن الأخذ، وأخذت تبكي وتقول أنا لا أريد منكم شيئا، إن كنتم تريدون أن تسدوا إليّ معروفا، فجدوا لابني عملا حتى يخرجني من هذه الحفرة. فقد -والله- ضقنا ذرعا بهذا البرد القارس والوحشة القاتلة. أربع وعشرون سنة ونحن على هذا الحال من الغربة والفقر والحرمان، فكما ترون أنا وحدي من يسكن في هذا الفضاء الشاسع، فلا جارة أحدثها وتحدثني، ولا بعل يؤنسني، ولا أم ترحمني، ولا أب يحميني، ولا أخ يشدّ أزري ويأويني. أربعة وعشرون عاما وأنا أمنّي النفس أن يكبر ولدي ويشتغل فينقذني وإخوته الصغار ويرفع العَنَت عنّي.
قلت: وأين زوجك؟
قالت: تركنا وغادر.
قلت: وأين ابنك؟
قالت: إنّه يدرس في الجامعة، وهو الآن في عام التخرّج، لكن بسبب ظروفنا المادية الصعبة انقطع عن الدراسة. وحلمي أن يشتغل وينقذني وإخوتَه الصغار من هذا الوضع الكارثي.
ألححت عليها أن تأخذ ما أعطيتها، وطمأنتها بأننا سنفعل ما بوسعنا لنجد لابنها عملا.
عدت أدراجي، ركبت السيارة، بكيت كما لم أبك منذ مدّة، وبكى من معي، وخيّم الصمت على سمائنا سويعة، فسبحتُ متأملا وقلت لنفسي: أسمعت يا خسّيسة؟ أسمعت يا جاحدة؟ تتقلّبين في نعم الله ثمّ لا تشكرين الكريم الوهاب! تأكلين وتشربين ما لذّ وطاب، وتلبسين أحسن الثياب، وتعيشين في دفئ البيت والأحباب، ثمّ تنكرين كلّ ذلك وعينك على المزيد.
يا نفس؛ والله ما يملأ فمك إلا التراب.
انظري يا نفس إلى حال النّاس، هذه التقيناها فباحت لنا بآلامها، ونثرت أمامنا أحلامها وآمالها، فكيف بمن لم نلتق! كيف بآلاف البؤساء والمحتاجين من أبناء وبنات هذه المناطق النائية – الفتّان جمالها، الرائع منظرها، النقيّ هواؤها، الرديئة طرقها، المنقطعة سبلها، القارس قرّها- الذين نطلّ عليهم ضيوفا بلباسنا الأنيق، وكلامنا الرشيق، وسياراتنا الفخمة، فنسعّر نار حرمانهم، ونؤجّج حطب فاقتهم ثمّ نودّعهم ضاحكين.
تألمت وتأمّلت.. تفكّرت وتدبّرت.. وقلت لعلّ المولى الكريم سبحانه استجاب دعوة هذه المرأة الصائمة – فقد أخبرتنا أنها تصوم دائما نصف شهر شعبان – فأتى بنا من بعيد علّنا نكون سببا في عمل ابنها وإنقاذها وإنقاذ أسرتها مما تعانيه من خصاصة وحرمان، وقسوة ووحشة وآلام وأحزان.
فهل يعود الدفء إلى هذه الأسرة بعد البرد القارس، وهل ينبلج صبحها بعد الظلام الدامس، وهل نفي بوعدنا لها ويشتغل ابنها فينتشلها من هذا الوضع البائس؟
ألا سلام على نساء عفيفات ما بعن العِرض وإن ضاق العيش وعزّ الغذاء!
ألا سلام على نساء طاهرات صامدات لم يكسرهنّ العوز، فصنّ الشرف ورضين بالقضاء، وافترشن الثرى والتحفن السماء!
ألا سلام على أمهات وفيّات هرب عنهنّ الأزواج فما فرّطن في الأمانة وربّين الأبناء!
ألا سلام على قلوب مؤمنة واثقة بالله لا تعرف اليأس ولا ينقطع منها الرجاء!
ألا سلام على قلوب رحيمة كالغيث حيثما مرّت أمطرت، لها أياد بيضاء لا تكفّ عن العطاء!
وصلى الله وسلّم على إمام الأولياء وختام الأنبياء، وعلى آله وصحبه الأتقياء الأوفياء، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الجزاء.