ورد عن سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (ما تزين الإنسان بزينة أجمل من الفتوة)، ومفهوم الفتوة يعبر عن زهرة الشباب حيث القوة والصحة والقدرة على القيادة والإنتاج والصمود أمام عواصف الشهوة وأغلال المجتمع الفاسد، ومن أمس ما يحتاجه شباب الأمة الإسلامية في واقعنا المعاصر، نماذج حية واقعية خالدة من شباب صدر الإسلام رضي الله عنهم وأرضاهم، ليكونوا أنفع لأنفسهم ولأمتهم، يستنبط منهم النموذج السليم والقدوة الحسنة التي ينبغي أن يحتذى بها في الجمع بين حيوية الشباب وقوة الإيمان وحسن الخلق ورجاحة العقل.
الشباب في مشروع المنهاج النبوي يمثل محور عملية التغيير الحضاري المنشود، فهو أساس كل التحولات الإنسانية التي تسعى إلى تحقيق مجتمع العمران الأخوي القائم على قيم الإخاء والتكافل والعدل.
ومهمة الشباب تكمن في الوعي بعظم المسؤولية، ومن ثمة امتلاك القوة الإيمانية من أجل المساهمة الفاعلة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا للترقي في معارج الكمال الخلقي والجهادي ومقاومة دعاوى التغريب والعمل على إنجاح المشروع الإسلامي التجديدي من خلال قيادة التغيير وصناعة المستقبل، وهذا منوط بتحرير الإرادة وبناء الذات والعودة إلى المعين الصافي لاستقاء النموذج من الصحابة والصحابيات الذين تربوا على يد المعلم صلى الله عليه وسلم.
نماذج من الأنبياء ورد ذكرهم في القرآن الكريم
ضرب القرآن الكريم أمثلة لعدد من الأصفياء من الأنبياء الذين اختارهم الله عزّ وجل لرسالاته ووحيه، أمثال:
– نبي الله سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي رفض الوثنية والشرك وتأمل في ملكوت السموات والأرض، حتى دله الله تعالى على الحقيقة، فآمن بالله وتبرأ من الأصنام ليكون بذلك القدوة لكل الفتيان والشباب الموحدين، قال تعالى: وَكَذلكَ نُري إِبرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَمَاوَاتِ وَالأرضَ وَلِيَكونَ مِنَ المُوقِنِيـنَ [الأنعام: 78].
– نبي الله سيدنا يوسف عليه السلام الذي آتاه الله العلم والحكمة وقاوم عواصف الشهوة والإغراء، قال تعالى: وَرَاوَدَتهُ التي هُوَ فِي بَيتِهَا عَن نَفسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبوَابَ وَقَالَت هَيتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحَسنَ مَثوايَ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظالِمُونَ [يوسف: 23].
– نبي الله سيدنا موسى عليه السلام، الذي تربى في البيت الفرعوني ورغم ذلك بقي متمسكاً بجذوره ومرتبطاً بأصله الإلهي الرباني، يتجنب عون الظالمين، وينتصر للمظلومين: قال الله عزّ وجل: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاستَوَى آتَينَاهُ حُكماً وَعِلماً وَكَذَلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ [القصص: 14].
نماذج من شباب صدر الإسلام.. العبرة والقدوة
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ وهو يَعِظُه: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناءكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قبلَ شُغلِكَ، وحياتَكَ قبلَ موتِكَ» (أخرجه الحاكم في المستدرك)؛ وصية من أعظم الوصايا، وتوجيه نبوي من الحبيب المعلم، ليس لهذا الرجل وحده، وإنما لكل شباب هذه الأمة لتغتنم الفرص في طاعة الله واجتناب معاصيه في زمن المهلة وقبل فوات الأوان، امتثالا لقوله تعالى: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 56].
فعن ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «نِعمَتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ»؛ رواه البخاري، وقال رسول الله صل الله عليه وسلم: “لا تزول قَدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن عُمُرِه فيمَ أفناهُ، وعن عِلْمِه فيمَ فَعَلَ، وعن مالِه مِن أينَ اكتَسَبَه، وفيمَ أنفَقَه، وعن جِسْمِه فيمَ أبْلاه”.
أدرك شباب العهد النبوي من صحابة رسول الله صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ نعم الله عليهم وحرصوا على اغتنامها، ومن هؤلاء الشباب:
الشاب الجليل عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما، ففي حديث رواه هذا الصحابي قال: جمعت القرآن فقرأته كلَّهُ في ليلة، فلما علم رسول الله صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ قال له: “إنِّي أخشى أن يطولَ عليْكَ الزَّمانُ وأن تملَّ فاقرأْهُ في شَهرٍ، فقلتُ دعني أستمتِع من قوَّتي وشبابي، قالَ فاقرأْهُ في عشرةٍ قلتُ دعني أستمتع من قوَّتي وشبابي قالَ فاقرأْهُ في سبعٍ قلتُ دعني أستمتع من قوَّتي وشبابي فأبى” (أخرجه ابن ماجة).
ما إصرار عبد الله بن عمر بن العاص على هذا الأمر، إلا لإدراكه أن شبابه سيعينه على أكثر من ذلك فأراد أن يغتنم هذه المرحلة في مرضاة الله تعالى، وما إشفاق الحبيب المصطفى عليه ومراجعته له في كل مرة إلا خشية منه أن يشق الأمر على هذا الشاب وينقطع عنه، غير أن موقف عبد الله بن عمر بن العاص كان ثابتا واستأذن من رسول الله أن يدعه يغتنم قوته وشبابه في قراءة كتاب الله قبل أن يكبر سنه ويصيب جسمه الوهن.
ولقد برز شباب العهد النبوي في جوانب كثيرة من العلوم من خلال صحبتهم واقتباسهم القلبي من المعين الصافي، وذلك بشهادة الحبيب المعلم صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ.
ففي حديث أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبَيُّ، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح”.
فقاضي هذه الأمة هو سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الذي كان شابا على عهد رسول الله وعمره لم يتجاوز 27 عاما عند وفاة الحبيب المصطفى، كان حكيما في الفصل بين القضايا لحكمته وسعة علمه وفقهه.
وأما سيدنا زيدُ بنُ ثابِتٍ فقد كان ملما بعلم الفرائض، بمسائل قسمة المواريث وأحكامه، وكان عمره 23 سنة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وعالم هذه الأمة بأحكام الله، بما هو حلال وبما هو حرام، هو سيدنا معاذ بن جبل لقول رسول الله: «معاذ أمام العلماء يوم القيامة برتوة أو رتوتين» أي بخطوة أو خطوتين (أخرجه الإمام أحمد في مسنده)، أسلم رضي الله عنه وهو ابن 18 سنة، وقد شهد معاذ بن جبل غزوة بدر وعمره 20 أو 21 سنة.
وأما سيدنا أُبَيُّ بنُ كعبٍ رضِيَ اللهُ عنه، فقد كان أحفظ الصحابة للقرآن وأعلَمَهم به، قال أنس بن مالك: قال النبي ﷺ لأبي بن كعب: “إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال: الله سماني لك؟ قال: نعم قال: وذُكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم فذرفت عيناه” (متفق عليه).
ثم قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “ألَا وإنَّ لكُلِّ أُمَّةٍ أَمينًا، وأمينُ هذه الأُمَّةِ أبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ”، كان سيدنا أبو عُبَيدةَ ابنُ الجَرَّاحِ رضِيَ اللهُ عنه أمين هذه الأمة وثقتها، وكان قد فتح اللهُ تعالى على يديه فُتوحًا كثيرةً في خِلافةِ أبي بكرٍ وعُمرَ رضِيَ اللهُ عنهم، ولم يُعرف ترتيب أبي عبيدة بين الذين أسلموا في بداية الدَّعوة، لكن ذكر ابن هشام في سيرته أنَّه أسلم بعد أوَّل ثمانيةٍ ممَّن دخلوا في الإسلام، على يد أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وعمره لم يكن يتجاوز آنذاك خمسة وعشرون عاما.
هذا وقد تعددت فضائل العديد من شباب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في أوجه متعددة، فإلى هذه النماذج ينبغي أن تشرئب العقول والأفئدة، للسير على خطاهم في زمن أصبح فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله مخاطبا الشباب: “اربوا النفس تنالوا الزلفة عند الله فذاك بدء الجهاد”، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله” (رواه أحمد والترمذي والطبراني رحمهم الله بإسناده حسن)، ويقول أيضا رحمه الله في كتيبه “رسالة إلى كل طالب وطالبة”: “أنتم الطلبة المؤمنون والطالبات تحصَّنوا وحصِّنوا الناس بعقيدة التوحيد، تخلقوا بأخلاق المؤمنين والمؤمنات. كونوا يَقِظي العقل والقلب وأيقظوا الناس. أرسُوا الشعور بمسؤولياتكم على دعائم الإيمان بالله، والخوف من الله، والصدق مع الله، والشوقِ إلى لقاء الله بصفحة ناصعة طاهرة بعد حياة جافَت السفاسِف والتفاهات، وعمَرها الجهاد في سبيل الله”.