تشكل المسألة الشبابية بالمغرب بتحدياتها ورهاناتها انشغالا مجتمعيا بارزا، وهذا الانشغال المجتمعي يجد تعليله في قاعدة الشباب الواسعة بالهرم الديمغرافي في بلادنا. وارتفاع نسبة الشباب ليس مجرد اتجاه ديموغرافي سائد، بل إنه جزء من نمط بديل لرؤية المستقبل من وجهة نظر الشباب واحتياجاتهم المتغيرة، في ظل التحولات الجديدة التي أصبحت تؤثر على جميع الفئات من الشباب، ذلك أنهم باتوا يتطورون في عالم منفتح ومعولم بشكل متصاعد ويعيشون في ظل سياقات وطنية تتصف بتزايد تأثير الثورة الرقمية.
يوفر هذا الواقع الجديد لشباب اليوم إمكانيات هائلة للتعبير الحر عن احتياجاتهم وتطلعاتهم، وعززت التكنولوجيا من استقلاليتهم، وهو الأمر الذي يجعلهم يتمتعون بقوة حقيقية ومؤثرة، لذلك فنحن اليوم أمام جيل من الشباب واع ومتطلب، يتشوف نحو الحضور والمشاركة وإثبات الذات على أكثر من صعيد، ولكن في ظل ما يواجهونه من عقبات تفرض حضورها، ينعكس الأمر تحديا في مسار التميز الذي يطمحون إليه. ولتشخيص التحديات، لا بد من تعيين الأبعاد التي يمكن أن تحضر فيها، والتي يمكن توزيعها وفق التالي:
الالتزام والتدين
تأتي ظاهرة التدين بكل تشعباتها ومفاهيمها لتفرض نفسها بقوة ضمن قضايا الشباب، سواء على مستوى التمثلات أو الممارسات، مما يعني أن الفئة الشبابية كفئة طموحة تهدف إلى التغيير لا بد وأن تتبنى روئ وتصورات معرفية جديدة لمسألة الدين. جيــل الشــباب اليــوم يــؤمن بضرورة التجديد في المسائل الدينية وملاءمتها مع ظروف العصر، فهو يـدرك أن هنـاك أفهــام أخــرى للـدين، تهـــدم كـــل الوســـائط وكـــل الحواجز، وتؤسس للهوية الدينيـة الحقيقيـة التـي تـم طمسـها لصـالح هويـة دينيـة مشـبعة بالعادات والثقافات.
ولعل من أهم العوامل التي رسخت هذه القناعة لدى الشباب؛ قصور التربية الدينية التقليدية عن إشباع الحاجات المعرفية والإجابة عن الأسئلة الوجودية، في بيئة الانبهار بتطور العلم والثورة الرقمية. أضف لذلك عامل ثان وهو صعوبة التوفيق بين الرغبة في التدين ونمط العيش الذي تفرضه منظومة القيم الوافدة مع النموذج الغربي، وبالتالي اختلال معايير القبول والرفض بين الالتزام والرغبات. ثم يليه عامل ثالث متمثل في قوة منصات التسطيح الفكري، التي تهدف إلى عزل الشباب عن حقيقة دينه، من خلال عنصر الجـــــــــاذبية. ويبقى العامل الأهم هو قصور الاجتهاد فيما نسميه بـ”النوازل الشبابية”، فالشباب ما زالوا يعانون من تفاوت الرؤى فيما يخص قضاياهم العصرية، بين خطاب ديني منفتح يعزز مكانتهم وأدوارهم في المجتمع، وبين الخطاب المتشدد الذي يفرض عليهم قيودا تجمد هذه الأدوار .
ومواجهة هذه التحديات إنما يكون بتقديم النسخة الأصيلة المعتدلة من الدين والتدين، والتي تجمع بين المثالية والواقعية في النظر لاحتياجات هؤلاء الشباب فكرا وسلوكا، وهذا التقديم لا محالة ضرب من ضروب الاجتهاد في عصرنا، مع تكثيف المضمون المعرفي الديني اعتمادا على المصادر الآمنة، وكذلك العمل على إعادة النظر في المناهج التربوية وإتاحة هامش أكبر للشباب في التعبير عن آرائهم واحتياجاتهم. وذلك لتنمية حس التفكير الحر والإيجابي.
الهوية والانتماء
يتفاعل الشباب مع بيئة ليست محلية محدودة ولكن مع بيئة عالمية تتسم بالتغيرات السريعة المذهلة وعالم مضطرب يتسم بالغزو الثقافي المتدفق، وتتصارع فيه الحضارات والقوميات صراعا ثقافيا مما أثر على هوية الشباب. صحيح أن العولمة فتحت الأبواب أمام الفرص لكنها في الوقت نفسه كانت السبب الرئيسي في وضع الشباب أمام أسئلة وجودية حول هويتهم وانتمائهم. فنجد بعض الشباب يسعى إلى إعادة تعريف هويتهم بطريقة تجمع بين عناصر تقليدية وحديثة، عبر الانتقاء من ثقافاتهم الأصلية، وفي نفس الوقت يعتمدون قيما عالمية تنسجم مع طموحاتهم وتطلعاتهم.
لكن الواقع يصدم الشباب، والسبب في ذلك هو أن الأهداف والطموحات التي يسعى إليها الشباب، أصبحت لا تتناسب مع القدرات والمقومات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية الحالية القائمة في المجتمع، وهو ما سبب في وجود هوة واضحة بين الشاب الذي رضع من العولمة وتأثر بثوراتها وقيمها، وأبعاد الواقع المجتمعي. كذلك المعايير الاجتماعية التي كان يفترض أن تحكم مسيرة الشباب لتحقيق أهدافهم وفق قدراتهم، أصبحت شبه غائبة في المجتمع، وهو ما أدى إلى فقدانهم الثقة في القوانين المنظمة لسلوك المجتمع ومؤسساته ورموزه الثقافية وغيرها.
وأيضا لا ننسى أن الشباب بحكم عمره شديد التأثر بالتغيرات العالمية الجديدة، والتي أحدثت تسارعا مذهلا غير متوقع في كثير من مناحي الحياة، حتى أضحت السرعة في كل شيء، مثال ذلك الموسيقى والأغاني وسرعة تبادل المعلومات من خلال الميديا ووسائل الاتصال.. مما ساهم في سرعة نقل الثقافات خاصة الغربية، ووجد الشباب نفسه أمام ثقافة تمثل حضارة كونية سائدة تغزو العالم ببريقها وتتميز بالسريعة في إيقاعها؛ فراح يقلدها، وانعكس على ثقافته السريعة في كل شيء، إنه يريد أن يحقق طموحاته وأحلامه بسرعة مذهلة.
وعليه يبقى استيعاب هذه الحقائق هو السبيل الأسلم لبناء هوية الشباب وتعزيز انتمائهم إلى دينهم ووطنهم، الذي يبدأ من تلبية حاجتهم التي تحقق لهم ذواتهم كمواطنين، وبالتالي ينبرون إلى القيام بواجباتهم وما يترتب عليها من مسؤوليات، فإذا كان هناك توازن بين الحقوق والواجبات فسيكون هناك تعميق حقيقي لمفهومي الانتماء والهوية.
التمكين الاجتماعي
يدل التمكين الاجتماعي للشباب على عملية مشاركتهم الفعالة في المجتمع، وذلك بإدماج جميع فئاته اجتماعيا مع الحفاظ على التنوع والفردية، ضمن برامج ومشاريع مبادرات، بهدف تعزيز تطورهم الشخصي ومهاراتهم الاجتماعية الحياتية. وهذا الأمر لن يتحقق إلا بالحرص على تفعيل مشاركتهم في عملية صنع السياسات وفي تحمل المسئولية الاجتماعية والأعمال التطوعية بشكل يساعد على النهوض بالمجتمع وتحسين مستوى حياة أفراده.
لكن أمـام غيـاب إطـار يحـدد آليات تمكين الشباب اجتماعيا، يحـول دون اضطـلاع هذه الأجيال بمســؤوليتها الاجتماعية. وهذا ناتج عن إقصــائهم مــن مراحــل إعداد السياســات العموميــة الموجهــة لهم، وبالتالي لا تعكس تطلعاتهم واحتياجاتهـم الخاصـة. ونتيجـة لذلـك؛ فـإن ثقـة هؤلاء الشـباب: الفقـراء منهـم والأغنياء، الذكـور والإناث، الحضريون أو القـرويون، تتلاشى فـي هذه السياسات. وهـو مـا يتجلـى فـي ضعـف انخراطهـم فـي الآليات التقليديـة للمشـاركة الاجتماعية، إذ يرونهـا غيـر قـادرة علـى تغييـر الأمور.
لذا أصبحت اليـوم ضمـان انسـجام التدابيـر المتخـذة لفائـدة الشـباب ضـرورة ملحـة، وهـو مـا يقتضـي اقتـراح هندسـة جديـدة تمكـن مـن تجـاوز المبـادرات المعزولـة، وتسـمح بإرسـاء سياسـة شـمولية ومنسـقة، تنسجم فيها تدابير مجالات التربيــة والتعليـم والصحـة والتشـغيل وغيرها، وتتكامل فيها برامـج العمـل، التـي ينبغـي وضعهـا بطريقـة قائمـة علـى التشـاور وتنفيذهـا وفـق مقاربـة تفاعليـة. ولا يمكـن لهـذا الهـدف أن يتحقـق إلا بالعمل على تحرير طاقـات الشـباب وتوجيههـا.
التمكين الاقتصادي
يعتبر التمكين الاقتصادي للشباب من الأولويات الملحة التي تتصدر لائحة تطلعاتهم المستقبلية، لأنه يساعدهم على تحقيق الاندماج الاقتصادي في مجتمعاتهم. والواقــع أن معــدل البطالــة فــي صفــوف الشــباب يظــل مرتفعــا، بـل إن أغلـب الشـباب العاملين يشتغلون بالقطـاع غيـر المنظـم الذي يتسـم بالهشاشـة والأجـور الزهيـدة. كما أن الصعوبة التي تعترضهم في الحصـول علـى منصـب شـغل لائـق يشـعرهم بأنهـم لا يتحكمـون بشـكل نسـبي فـي مسـتقبلهم الاقتصادي.
أضف إلــى ذلك مــا يشــهده المغــرب مــن نقــص فــي المــوارد البشــرية المؤهلــة، وعــدم ملاءمة التكويـن الـذي توفـره منظومـة التربيـة والتكويـن لحاجيـات سـوق الشـغل، مما يجعـل الانتقال مـن مرحلـة التمــدرس إلــى حيــاة الشغل صعبــا. وفـي هـذا الصـدد، يجب الإشارة إلـى أن معـدل البطالـة يرتفـع كلمـا ارتفـع المســتوى الدراســي، وهــو مــا يســاهم فــي تكريــس مشــاعر الإحباط فــي نفــوس الشباب الذيـن لا يحصلـون علـى فـرص للشـغل. مما يدفع بكثير منهم إلى الانقطاع عـن الدراسـة.
وخلاصة القول؛ إن البطالـة وغيـاب بنيـات الدعـم الكفيلـة بتيسـير المشـاركة فـي الحيـاة الاقتصادية، عوامـل تسـاهم فـي تولـد إحسـاس الحرمـان لديهـم، ممـا يجعلهـم عرضـة للسـقوط فـي براثيـن الانحراف، بالإضافة إلـى تطلعهـم المتزايـد إلـى محاولـة ارتيـاد آفـاق جديـدة عبـر الهجـرة إلـى الخـارج. ويبقى العامل الأساسي وراء هذه الوضعية عـدم قـدرة النمـوذج التنمـوي الحالـي علـى الاستجابة لحاجيات الشباب وعجـزه عـن تحقيـق طموحاتهـم. وتبرز كل هـذه التحديات حجـم التدابير الواجـب اتخـاذها، وتؤكـد ضـرورة اعتماد خطة ذات طابـع ممنهـج ومندمـج بشـكل أكبـر.
التمكين السياسي
لقد أضحى التمكين السياسي للشباب ضرورة ملحة أملتها الحاجة الماسة إليه، بوصفه إحـدى أهم دعامات المواطنة لـدى المجتمعـات المعاصرة. فمشاركة الـشباب تعـد المـدخل الحقيقي لتعبئة طاقات الأجيال الصاعدة وتجديد الدماء فـي شـرايين النظام السياسي للوطن. المشاركة السياسية للشباب تعني في أبسط تعريفاتها مساهمتهم في ممارسة حقوقهم السياسية، بما أنهم قوة دافعة كبرى وراء الإنتاج والابتكار، ومن ثم حقهم في أن يستمع إليهم في وضـع أي سياسات وتنفيذها في المستقبل، وهو ما يعكـس مـدى شعورهم بتعرضهم للاستبعاد والتجاهل والتهميش، واقتـران هـذا الشعور برغبتهم في المـشاركة بـشرط أن تتـاح لهـم فـرص الانخراط الحقيقي والجاد.
لكن الواقع يؤكد أن أزمة المـشاركة الـسياسية لـدى الشباب مازالت قائمة، بسبب تقلص قدرة الخطاب السياسي في تحصيل الرضا وإقناع الشباب بالبرنامج والرؤية والتصورات، يوحي هذا الأمر إلى وجود أزمة تقترن بممارسة السياسة والانتظام داخل الأحزاب وضآلة فرص تواجد الشباب في المراكز القيادية، والتي تتيح لهم الانخراط الواعي في الفعل السياسي والتأثير الحقيقي في عملية صنع القرار السياسي. مما يجعل غالبية الشباب يبحثون عن بدائل تنظيمية غير كلاسيكية، تقدم تصورات مختلفة عن السائد والمتداول.
لذلك أصبح الرهان الحقيقي أمامنا هو تدبر كيفية تجديد أشكال مشاركة الشباب في الشأن العام، وتفكيك عراقيلها وتجديد أشكالها وتغذيتها. وهذا الأمر يتطلب إعادة النظر في التشريعات والسياسات والممارسـات من منظور الجيل، طالما اعتبرنا تمكـين الـشباب هـدفا ووسـيلة للإصلاح والتنمية. وهذا التجديد لا يختزل في مقاربة تنظيمية أو إدارية، بل يحتاج إلى فهم عميق لتطلعات الشباب وانتظاراته وتصوراته، وإلى إعادة قراءة تحولات الواقع السياسي والمسك بالرهانات المصاحبة له.
وختاما
إن هذا التغيير الكبير في مطالب الشباب ينبغي أن يوازيه تغيير حقيقي كذلك في العرض المقدم لهم، ولذلك يتعين على المجتمع المغربي التكيف مع هذا الواقع الجديد، من خلال تقديم عرض ذي مصداقية يستجيب لحاجيات هذا الجيل الجديد من الشباب، ويرقى إلى مستوى انتظاراتهم الحقيقية، ويعيد لهم الثقة المفقودة. ولبلوغ هذه الغاية ينبغي على المغرب تعبئة جميع القوى الحية في البلاد وجعل من الشباب واليافعين مركز اهتمامه، فيعدّهم الإعداد الصحيح ويرعى مسيرتهم نحو الحياة الحرة الكريمة، بما يحقق إنسانيتهم ويؤهلهم لحمل المسؤولية الكبيرة المنتظرة تجاه أنفسهم ومجتمعهم وأمّتهم.