انخراطا فـي فعاليات الذكرى الثانية عشرة لرحيل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله والتـي اختير لها الشباب موضوعا فـي مشروعه التغييري؛ اختيار حاز حظا وافرا من التوفيق، لا سيما والذكرى توافق صمود المقاومة الفلسطينية لأكثر من أربعة عشر شهرا أمام الغطرسة الصهيونية المدعومة عربا وغربا؛ صمود أبلـى فيه شباب المقاومة وحاضنتها الشعبية بلاء أبهر العالم وأضحـى مُلهما للشعوب التواقة للحرية.
ووعيا منه رحمه الله بمركزية الشباب فـي تغيير ما بالأمة من وهَن، فقد أولـى هذه الفئة اهتماما خاصا ينسجم وما يُنتظر منها من أدوار طلائعية فـي انبعاث الأمة وتخليصها من غثائية أحالتها قصعة تتهاوى عليها الأمم، نهْباً لمقدراتها واستهدافا لمنظومة قيمها؛ اهتمام يؤكده الحضور الكثيف لهذه الفئة فـي مكتوباته وعموم إنتاجاته، نكتفـي فـي هذا المقال بكتابه وتحفته “سنة الله” الذي أفرده لتناول الظاهرة الصهيونية فكرا ومشروعا؛ كتابٌ صدر فـي طبعته الأولـى سنة 2005، يضم بين دفتيه ثلاثمائة وأربعة وثلاثون صفحة موزعة بين مقدمة وخاتمة وأربعة فصول جاءت عناوينها تباعا: القاسية قلوبهم، روح الجاهلية، الصحوة الإسلامية، من الشكوى العاجزة إلى الوعود الناجزة.
وإذا كان الكتاب قد فصل فـي أدوار اليهود الإفسادية وإشعال نار الحروب عبر التاريخ، فقد جاء الفصلان الثالث والرابع لاقتراح مفاتيح الانعتاق من الهيمنة الصهيونية معتبرا أن المُعول عليه، بعد توفيق الله وتسديده، الأجيال الشابة من المسلمين متـى حسُن احتضانها وتأهيلها.
وحيث إنه لا يُصلَح حالُ الأمة اليوم إلا بما صلُح به أولها، تربية إيمانية قرآنية نبوية، فقد اعتبر الإمام المرشد رحمه الله التربية مفتاحا للتغيير، وخصّ شباب الأمة بعناية تليق وما يُنتظر منه من مهام جسام فـي مستقبل الأمة. يقول: “إننا بحاجة لبناء أمة، والشباب يُكوّنون فـي مجتمعاتنا المفتونة جيشا من العاطلين الذين أسـيء تعليمهم وتربيتهم. فإذا حصلوا بين أيدينا قبل قيام الدولة وبعده يجب أن نعِدّهم إعدادا جادا ليكونوا جند التحرير والبناء” 1.
أفواج من شباب الأمة ساقتهم وتسوقهم العناية الإلهية إلى الهداية واعتناق الإسلام، لكنها لم تستكمل بعد مقتضيات الإيمان، ولم تـتـطهر كليا من رواسب الجاهلية أو الغفلة التي تهدد بانتكاسة – لا قدر الله – ولم تتأهل للبناء وأعبائه، ولم تتلق الحظ الوافر من التربية وتـزكية النفس، “فالتحدي الآفاقـي الذي يواجهنا على المدى الطويل لا يقوم له إلا تغيير أنفسـي يزيل ما تراكم على فطرتنا من ركام، ويـجدد ما بلـي فـي قلوبنا من إيمان، ويُقوم ما اعوج من توجهات، ويُحيـي ما فنـي من مروءات، ويستصلح ما فـي أيدينا من كفاءات، ويصطنع ما نحتاجه منها، ويجمع القوة، ويقيم العدل، وينصف المظلوم…” 2.
وبقدر احتفائه وثقته فـي قدرة الشباب الإسلامـي علـى كسب معركة التحرر، تخوف الإمام المرشد رحمه الله من أن تستحيل هذه الأفواج المباركة من الشباب كمّاً غثائيا ينضاف إلى الكم الغثائـي الراقد القاعد من المسلمين، إذا لم تحظ هذه الأفواج بعناية الدعوة واهتمام الدعاة ومحاضن الإيمان ومدارس الصحوة الإسلامية المباركة.
التحدي – ينبه الإمام المرشد رحمه الله – هو فـي إعداد هذه الأفواج لتكون فـي مستوى عالٍ من التربية الإيمانية يخلصها من رواسب الفتنة وعوامل الفرقة والطائفية البغيضة القاتلة. هذا أساسا، ثم لتكون فـي مستوى ما تتطلبه المرحلة من تأهيل عملـي يُكسب الكفاءة والخبرة المطلوبة والمستجدة.
الرهان – فـي تقديره وبـعد توفيق المولـى الكريم – على العاملين للإسلام ورجالات الدعوة، فعلى قدر رسوخ الأقدام فـي الإيمان، وتنور البصائر بنور القرآن، وتشبّع القلوب بهدي خير الأنام؛ يستوي البناء القلبـي للأجيال، ويكون السير حثيثا نحو القومة الإسلامية تأسيا وتأسيسا على الهدي النبوي. “إن مهمتنا – رجال الدعوة – الأولـى أيها الأحباب، اليوم وغدا وبعد غد، أن نكون روحا سارية فـي المجتمع موصولة بأجيال بعدنا إلى يوم القيامة، تتحـسن نوعية إيمانها وترتفع همتها الإحسانية جيلا بعد جيل، وتنتشر، وتعم” 3.
من هنا وجب الإلحاح والتأكيد دون ملل على محورية الدعوة وفعالية رجالها، بل ونورانيتهم التـي يجب استمرار سـريانها في الأمة. التربية ابتداء، والتربية وسطا، والتربية ختاما، فهـي صمام الأمان وحزام سلامة الأمة فـي سفرها ومسيرتها نحو العزة والتمكين: “فإذا كان بيــت دين المسلمين واحدا واحدا قائما على غير الأساس المتين من نية التزكـي وإخلاص الاتباع، فدولتك – الإسلام – إنما هـي قرية نمل” 4، لذلك “فمهمة الدعاة والشباب الصاحـي أن يحفظوا ما بقـي من فطرة متوارثة، وأن يجـددوا فـي مسلسل توريث الإيمان ما بلـي، وأن يُلقِّحوا بالبذور الإيمانية ما عـقــم. مهمتهم الدعوة لصلاح النشء وإعادته إلى الفطرة والاستقامة لله. والدولة إصلاحها لن يكون إلا انتفاضة عابرة إن تفرغ جند الله بعد أخذ مقاليد الأمر لتدبير الأشياء بدل هداية الخلق” 5.
خلاصة القول: إنه على قدر عمق التربية الإيمانية التـي تبثها الدعوة فـي الأمة، وعلـى قدر عمق تنزيل السيرة النبوية فـي واقع الأمة تربية وتدافعا، وعلى قدر فعالية التعبئة وتجددها يبارك الحنان المنان فـي الجهود ويسدد الخطوات ويقيل العثرات؛ مطالب اعتبرها الإمام المرشد شروط وجوب لتنزُّل النصر. جاءت عملية طوفان الأقصــى وما جسدته تربية شباب المقاومة، بل وحاضنتها الشعبية، من أصالة وبذل وتضحيات وثبات ووعـي بتبعات مواجهة غير متكافئة علـى جميع الصعد، لتؤكد صواب إلحاح الإمام المرشد رحمه الله علـى محورية التربية الإيمانية علـى الهدي القرآني والنهج النبوي، وصواب الرهان، بعد توفيق الله وتسديده، علـى شباب الأمة لقيادة معركة التحرر والانعتاق من الذيلية والغثائية.
والحمد لله رب العالمين.
[2] عبد السلام ياسين، سنة الله، ط 2005/2، مطبعة الخليج العربي – تطوان، ص: 242.
[3] المصدر نفسه، ص: 265.
[4] عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص: 38.
[5] سنة الله، م. س. ص: 274.