مقدمة
إن المتأمل في خلق الله يلحظ “دوران بعض الخلق في فلك خلق آخر مصطفى وأقوى منه، بحيث يكون هذا الأقوى مركزا للدوران، ومحورا، أو بؤرة تتجمع حولها مخلوقات أخرى، ويكون مؤهلا لأسر الأضعف وربطه به ومنعه من التفلّت والاختيار” 1، ناموس كوني يجري على كل المخلوقات صغيرها وكبيرها؛ ويمكن ملاحظة بناء الكون الواسع وبناء الذرة، كمثالين غير متناهيين في الكبر والصغر على ذلك.
فهذه حقيقة حيوية راسخة، تصدق على العلاقات البشرية – تبعية بعض البشر لبعضهم الآخر الذين هم أنوية ومحاور -، وهذا ما يظهره التاريخ الإنساني، ويؤكده الاجتماع البشري، ولذلك يتعين على شباب هذه الأمة أن يطلبوا لأنفسهم المكان المحوري ليحوزوا ولاء الآخرين وإمامتهم، وحتى لا يمضي العالم إلى المستقبل بِدونهم وبدون أمتهم، وذلك باغتنام أوقاتهم وحسن تدبيرها في صحبة صالحة مصلحة موجهة.
أولا: الزمن أجل وأشرف ما يُحصِّله العقلاء
روى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”. بدأ الحديث الشريف بذكر مرحلة الشباب لاعتبارها سن الهمم المتوثبة والجهود المبذولة، سن البذل والعطاء، سن التضحية والفداء. فهذه المرحلة من أهم مراحل العمر لما يتمتع به الإنسان فيها من القوة والنشاط والحيوية.
والفطن من اقتنص فرصتها، واغتنم أوقاتها، واستثمر ميزاتها؛ فقد أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”، فمن مُنِح الصحة والفراغ، ولم يتخلص من الأشغال العائقة والملهية، وينهض لتعمير دنياه وآخرته فهو مغبون.
الوقت هو الحياة، بل هو أغلى وأنفس ما وُهِب الإنسان بعد الإيمان، وما ضاع منه لا يمكن تعويضه أبدا، والمتبصر بإمعان سيرى أن العمر الحقيقي للإنسان إنما يحسب بمقدار الوقت الذي يستثمره لعمارة دنياه وآخرته، وما عداه فهو خسارة لا تحسب. يقول الحسن البصري رحمه الله: “يا ابن آدم إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك” 2. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: “إضاعة الوقت أشد من الموت، لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها” 3.
ولذلك ينبغي على الشاب أن يعرف شرف زمنه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة وطاعة، لأنه أمانة عنده، وسيسأل عنه يوم القيامة. جاء في فيض القدير: “من أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه” 4.
وإذا كان الوقت ووقت الشباب مهما لهذه الدرجة، وإذا كان الحاجة الوحيدة التي يملكها، فَلِم معظم الشباب تضيعه⸮ وكيف يمكنهم استثماره ليحيوا حياة متوازنة⸮
ثانيا: أهمية التخطيط لإدارة الوقت وحسن استثماره
إن نتائج استثمار الوقت لا تأتي عفوية، وإنما تنتج عن تخطيط لحسن استخدامه. فالتخطيط هو بوصلة الحياة، وهو ليس حكرا على الشركات والمؤسسات بل حتى الأفراد يستطيعون التخطيط، قال سيدنا علي كرم الله وجهه: “رُبَّ هِمَّة أحيت أمة” 5.
والذين لا يخططون في الحقيقة لا يعرفون إلى أين يذهبون، وقد توصل الباحثون من خلال دراسات أُعِدت في هذا الخصوص، أن نسبة الذين يخططون لحياتهم نسبة قليلة قد لا تصل إلى 3٪ من مجموع ساكنة العالم، وأن هذه النسبة القليلة هي التي تقود المجتمعات في مجالات الحياة المختلفة.
إن العزيمة فرقت الناس أعلاهم وأدناهم، وأفضل الناس أكثرهم عزما، ومن هنا سمي أفاضل الأنبياء، وكلهم فضلاء، بأولي العزم، وهم: محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، عليهم الصلاة والسلام جميعا.
وفُضِّل على النساء خمس أيضا، وهن الكاملات ذوات العزم، وهن: مريم وآسية وخديجة وفاطمة وعائشة، رضي الله عنهن جميعا. وكل واحدة من هؤلاء تحمل قصة كفاح مجيدة عزمت على تخطيها، وقل لمن لا عزيمة له على دنياك السلام! ولا ينجح الناجحون إلا باستتباب هذه المسألة، فالنجاح قرار؛ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11]، إذ لابد من الأخذ بالأسباب، والتخطيط المحكم للمستقبل، الذي بفضله يمكن للشاب والشابة تحديد أهدافهما المنشودة. كما أن التخطيط يسهل عملية السير نحوها، ويساعد على توفير الوقت والجهد، ويقلل الإرهاق، ويساعد أيضا على الانتباه والتركيز على الأهداف قصد تحقيقيها.
يقول أحدهم: “إذا فشلت في التخطيط فقد خططت للفشل”، وفي كتابه وحي القلم يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي: “إذا لم تزد شيئا على الدنيا كنت أنت زائدا على الدنيا”.
ثالثا: الصحبة مفتاح
كل ما تقدم يطرح سؤال الإرادة وسؤال الكيف؛ لِمَ لا أكون أنا بؤرة ومحورا ومركزا⸮ ولِمَ لا أكون أنا من الرواحل⸮ وقد جاء في الحديث: “الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيه راحلة”. والجواب على كل ذلك وغيره هو الصحبة الصالحة التي تشحذ الهمة وتربي الإرادة، وتضع قدمك على سكة الفعل والعمل الصالح، والصحبة مفتاح النجاح ومفتاح لكل أبواب الخير.
صحبة الأخيار، وصحبة الناجحين تعينك وتنهضك، وتخرجك من الكسل إلى الجد والاجتهاد، ومن التسويف إلى الفعل والمبادرة، ومن العشوائية والتسيب إلى التخطيط وحسن التدبير ومن الفشل إلى النجاح في الدنيا والآخرة.
إن صحبة الصفوة الناجحة والكينونة مع الصفوة الصالحة المصلحة، ستضع قدمك أيها الشاب وقدمك أيتها الشابة على السكة الصحيحة والطريقة القويمة، وستمضي بكما نحو القمة، وتخلد اسميكما في الصالحين. والحمد لله رب العالمين.
[2] الأصفهاني، حلية الأولياء، دار الكتب العلمية – بيروت، دون تاريخ، 2/148.
[3] ابن القيم، الفوائد، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الثانية: 1393هـ – 1973م، 31.
[4] المُناوي، فيض القدير، دار المعرفة – بيروت، الطبعة الثانية: 1391 هـ، 6/228.
[5] د. صالح روبين أندي، روائع الحكم، 103.