تقديم
يعد الشعر من أقدم الفنون الأدبية في الثقافة الأمازيغية، وأكثر وسائل التعبير انتشارا وتداولا في المجتمع الأمازيغي قديما وحديثا. حتى خيل لكثير من المختصين في مجال الدراسات الأدبية أن الموروث الأدبي الأمازيغي يختزله الشعر وحده دون سائر الأجناس الأدبية الأخرى. فتعددت أغراض الشعر الأمازيغي وتنوعت مضامينه حتى استعصت على التصنيف والتبويب فضلا عن الحصر والتجميع. حيث لم يترك الشاعر الأمازيغي المتفاعل مع محيطه؛ هما من هموم الحياة إلا كان سباقا إلى التعبير عنه ولا قيمة نبيلة تعتز بها الإنسانية إلا أظهرها وسعى إلى ترسيخها، ولا صورة جمالية في الحياة إلا وكان شعره مرآة انعكست عليها، فكان الشعر و لا يزال خزانا إبداعيا ارتبط بالحياة الثقافية والأدبية للمجتمع الأمازيغي بل عنصرا جوهريا فيها بالإضافة إلى الموروث الثقافي والسجل التاريخي الذي تضمنه هذا الشعر.
الشاعر الأمازيغي الأديب والمؤرخ
فالشاعر الأمازيغي لم يكن فقط ذلك المطرب الذي يشنف أسماع الناس بشعره في المواسم والمناسبات كما يعتقد الكثيرون، بل هو أديب له رؤيته الخاصة للحياة وفلسفته للواقع الذي يتحرك فيه ويتفاعل معه، ومؤرخ سجل في ثنايا قصائده أهم وأخطر الأحداث التاريخية والهزات الاجتماعية التي عاصرها، إذ لو لم يؤرخ لها الشاعر لطواها النسيان و أقبرت مع أصحابها. فحفظت بحفظ الشعر وتداولها العامة على ألسنتهم من خلال ما تلقوه من أشعار حفظوها أبا عن جد، وتداولوها بعفوية فأصبحت حيّة في وجدانهم كحياة الشعر في وجدان الشاعر.
والشعر التقليدي لا ينفك عن فن الغناء والرقص حيث عادة لا يتأتى لعموم الناس سماعه إلا في مناسبات اجتماعية أو دينية، فيصبح الشعر ظاهرة جماعية لها مكانتها في الحياة اليومية وتندمج بشكل تلقائي في المناخ الثقافي والأدبي، فالشعر الأمازيغي غنائي في جوهره مصطبغ بخاصيتي الشفهية والجماعية اللتين تجعلان منه إنتاجا محكوما بظروف تواصلية مباشرة. حيث لا يتأتى لكثير من الشعراء نظم شعرهم إلا بوجود مؤثر خارجي عبر سجال حواري يتسم بالسرعة في الرد، وحسن الأداء والفهم العميق والقدرة على فك الرموز وجزالة لغة الخطاب وغنى المعجم، مع الحرص الشديد على إفادة المستمعين وإطرابهم، دون السقوط فيما قد يظنه السامع أو الطرف المحاور هزيمة أو ضعفا.
وجود الشاعر في خضم لجج هذه العناصر التي تستوجب عليه التحدي والبسالة وتصقل موهبته وتبرزها وتكشف بجلاء مكامن الإبداع في شخصيته وعناصر القوة والتميز في شعره ويظهر للعوام قبل المهتمين أسس عبقرية وخصائصها التي تميزه عن غيره.
الشاعر الأمازيغي مرآة تنعكس عليها آلام الناس وآمالهم
الشاعر وإن كان بسيطا في حياته اليومية، أمّيا لم يكتب له التعلم، حرفيا أو عاملا يصارع الحياة من أجل قوته وعياله، قد لا يكاد يتميز عن عامة أفراد مجتمعه من الناحية المادية والاجتماعية، لكنه يرتجل الشعر دون تردد ولا تلعثم فاكتسابه القدرة التلقائية على القول الموزون بالموهبة والممارسة، تجعله يتحاور مع نده وخصمه وسط من يعرفه ومن لا يعرفه دون خوف ولا وجل مقتنعا بما يقول، أحيانا متحديا به، غير متزلف ولا متملق، فالشاعر الفذ المبدع هو من له القدرة على تجاوز النطاق التقليدي لقول الشعر والظروف المصطنعة التي يمارس فيها دور المتلقي والمرسل في “أسايس” محاورا ولا بد، مجيبا أو متسائلا حيث يفقد الشعر أهم مقوماته، إذ لا يؤدي الشاعر مهمته كاملة إلا في محفل جماهيري وفق طقوس تقليدية معينة، حيث تقام الرقصة والغناء الجماعي في -أحواش- أو غيره. فالشاعر العبقري المبدع هو الذي يستطيع أن يخرج بموهبته وإبداعه من سياج “أسايس” ويتجاوز أسوار الظروف التقليدية لقول الشعر إلى فضاء الحياة الأرحب ومضمارها الأوسع، يقول الشعر في محفل “أسايس” أو منفردا في حقله أو متجره، راكبا على دابته فيحاورها شعرا ويجيب نيابة عنها شعرا، متسما بالتلقائية والقدرة على التواصل الإبداعي والعفوية في الأداء ينسج أحداثا مرت أو آمالا يتطلع إليها في حبل قصيدته التي يمتزج فيها الحزن والفرح ويرتبط فيها الماضي بالحاضر كما هو في حياة الشاعر. يتخذ شعره مرآة تنعكس عليها هموم الحياة في صدق ما يعكسه من تطلعات الناس وما يشخصه من اهتمامات الناس ونوازعهم الفردية و الجماعية. شعره سجل فني دقيق لنفسياتهم وعواطفهم وأثره واضح وجلي عليهم، لما يقدمه من توجيه وإفادة لهم. مما جعل الناس يتفاعلون بتلقائية مع الشاعر ويحتفون به ويقدرونه ويحفظون أشعاره ويرددونها ويتغنون بها شفويا.
القيم الجمالية والبناء الفني للقصيدة الأمازيغية
ولا تنحصر القيمة الأدبية والثقافية للشعر الأمازيغي في مضمونه وأغراضه والقيم الإنسانية التي يعبر عنها، بل أيضا وبشكل أوضح في صورته الفنية وترابط إيقاعاته الموسيقية ووحداته الصوتية وتماسك البناء الداخلي لقصائده، ويدرك السامع المتلقي هذه الصورة الجمالية والإيقاع الموسيقي في الشعر الأمازيغي بالحس الفني والذوق الأدبي وبالتفاعل الوجداني قبل إدراكها بالدراسة والتحليل بالمنهجية الأدبية، بعد تدوين الشعر الأمازيغي، حيث يقوم النظم الأمازيغي على أسس عروضية وإيقاعات متنوعة تسمى “التييات”: قصائد أو أغنيات هي وحدات صوتية ذات مقطع واحد يشكل منها القالب الإيقاعي والعروضي الذي تندمج فيه الوحدات المعجمية المكونة للبيت، حيث يلتزم الشاعر أثناء نظمه لشعره بنفس الصيغة العروضية التي يستهل بها قصائده، وليس لنظام القصيدة الأمازيغية من الناحية الخارجية حدودا معينة يقف عندها شطري البيت كما هو في القصيدة العربية؛ بل الوزن والإيقاع الموسيقي للقصيدة هو الذي يتحكم في بداية البيت وفي نهايته ويضبطه طولا وقصرا داخل القصيدة. ويدرك كل هذا بالسماع في أغلب الأحيان لدى عامة الناس الذين يتذوقون الشعر الأمازيغي ويفهمون لغته ويتأتى لهم فك رموزه وتخيل أخيلته، نظرا للطبيعة الشفهية للشعر الأمازيغي خاصة التقليدي منه.
جمع وتدوين الشعر الأمازيغي ضرورة حضارية وأولوية ثقافية
وتبقى سمة الشفهية بارزة ومصاحبة للشعر الأمازيغي في كل أطواره السابقة؛ وإن كان لهذه السمة دور كبير في حفظ هذا الشعر وتعميم تداوله وسرعة نشره وتلقائية التفاعل معه والتأثر به؛ كانت أيضا العامل الرئيس في طمس الكثير من الأشعار القيمة التي لم تسجلها ذاكرة الحفاظ فتعرض الكثير منها للبتر أو النسيان أو الكتمان أو الانتحال والتشويه. وكثير من الشعراء المبدعين ذابت إبداعاتهم في الذاكرة الجماعية وضاع الكثير من درر إبداعاتهم، فبات حتما من باب الضرورة الواقعية والأولوية الحضارية تحديث هذا التراث وإخراجه من سياج الشفوية الضيق إلى فضاء التدوين الأرحب، صونا له من النسيان وحفظا له من الضياع، ليكون متنا يعتمد في الدراسات الأدبية المتخصصة.