مرت سنتان على استشهاد كمال عماري، ذاك الشاب الذي لا ينساه المغاربة، وكيف ينسونه وكثير من أهل المعمور لن ينسوه، وكيف ينسون تلك الصور والفيديوهات التي عرضتها وسائل الإعلام الدولية. كيف ينسون شابا خرج في تظاهرات سلمية يطالب بعيش كريم وحرية، فأصابته يد غادرة مجرمة سفاحة ليس في قلب صاحبها أية رحمة أو شفقة، هذا ما يمكن أن يقوله أي شخص رأى كمال وهو على سريره يدخله بعض الشباب إلى المستشفى، لعل يد طبيب تكون سببا في إنقاذه من الموت، لكن الجراح كانت غائرة، جراح تسببت فيها اليد الآثمة القاتلة. قد مزقت جسدا من أجسادنا، قتلت شابا من شبابنا.
لا أريد أن أسيل الدم من أكباد جرحت من هول ما رأت، ولا أريد أن أعود إلى ذكريات أليمة، فهي لن تنسى على كل حال، وعزاؤنا في ذلك أن حبيبنا كمال مات شهيدا، مات من أجل قضية، مات مرفوع الرأس. وما أردت أن أقوله أن اليد التي غدرت كمال وقتلته ما زالت طليقة، ولا نأمن على شبابنا منها. يد قاتلة مجهولة ما زال المسؤولون يبحثون عنها.
ولنا أن نطرح أسئلة ليس من باب الفضول، ولكننا اكتوينا برحيل كمال، ولا نريد أن نفجع في آخر. ترى أعجز كل المعنيين أن يجدوا هذا القاتل المجرم؟ هل عجز الأطباء بعد فحص طويل ودقيق أن يحددوا ما إذا كان كمال مات بسكين أو بضربة على الرأس أو بركلات ولكمات انهالت عليه من كل جانب فعمت جسده جراحا؟ هل عجز الأطباء ومعداتهم عن معرفة ما إذا كان كمال قد حدث له نزيف داخلي وأن دماءه سالت في داخل جسمه كما سالت خارجه؟
فإن كان أطباء المغرب قد أعجزتهم هذه الحالة عن تشخيصها، أفلا يستعينون بأطباء وخبراء وعلماء أجانب. أما إذا كان هذا العجز سببه المعدات الطبية العتيقة التي تعود إلى سنوات مضت، أفلا يستورد المغرب معدات متطورة، وهو الذي يستورد كل شيء من دقيق القمح إلى برامج ومناهج التعليم.
هذا رجم بالغيب، فربما كان أطباؤنا قد حرروا تقريرا مفصلا بينوا فيه حيثيات وفاة كمال عماري، ولأن الملف يحظى بعناية خاصة وبسرية تامة فربما فضلت الجهات الرسمية عدم الكشف عنه حتى تتمكن من القبض على المجرم. ولكن، لماذا هذا التأخر؟ فقد مر وقت طويل دون جديد، أعجزت أعين الأمن والمخابرات والمخبرين عن إيجاد هذا المجرم الطليق والقبض عليه؟ فليست مساحة المغرب بمساحة الولايات المتحدة الأمريكية ولا مدننا بحجم مدنهم، ورغم ذلك فهم يصرحون بالقبض على منفذ عملية كذا في اليوم كذا غير بعيد عن وقت تنفيذ الجريمة، وإنني أشك أن يكون أمن أمريكا ومخبريهم أحدّ بصرا من مخبرينا، فلقد علمنا أن هؤلاء يحصون أنفاس الناس حتى إنهم لقادرون على معرفة ما يضعه المواطن البسيط في سلته وهو عائد إلى بيته بعد جولة في السوق الشعبي. ماذا حدث لهذه العيون؟ أأصابها الحول أم إن هذا السفاح المجرم يمتلك قدرات غريبة ما زال الأمن المغربي لا يمتلك وسائل مضادة لها؟ ولنقل إن أجهزة الأمن والمخابرات والمخبرين قد حاولوا واستفرغوا جهدهم في البحث، ولا شك أنهم ما زالوا يبذلون الجهد يواصلون الليل بالنهار بحثا على هذا المجرم الذي دوخهم وأبطل كل حيلهم، فما لنا لا نرى السياسة والدولة والنظام لا يتحدثون عن هذا الأمر، وكأن كمال عماري مهاجر سري من إفريقيا جنوب الصحراء دخل المغرب خلسة ووجد على سواحل المغرب الشمالية بعدما لفظه البحر !فهو مصدر إزعاج فقط، إنه من آسفي وقتل في آسفي.
أما الإعلام الرسمي الذي يستمد حياته من جيوب المواطنين البسطاء، أفلا يهمه أن يقتل شبابنا غدرا؟ لا، ربما كانت أعراس أمراء أوربا أهم.
لا أريد أن أطيل في الكلام، فأسبق ما جاء في تقرير الأطباء الكرام، ولا ما سيسفر عنه بحث عيون الأمن التي لا تنام، ولا ما سينطق به القضاة العظام، ولا ما سيكون للسياسة والدولة والنظام من رأي هو فصل الكلام، وما أريده حقا هو أن أنقل شهادة حق ويقين، أرويها ولا أكتمها حتى لا أكون آثما عند رب العالمين، فقد سمعت بعض شباب المغرب الأحرار، ولا أحسب أن هذا سر، فقد تحدث عنه الناس في كل الأمصار، وتناقلته كثير من وسائل الإعلام والأخبار، أن المخزن المغربي هو قاتل كمال عماري. وقالوا عن كمال، هو شاب مغربي الجنسية، من مدينة آسفي الأبية، انتمائه لأهل العدل والإحسان أهل الجهاد والتربية، خرج مطالبا بالعدل والكرامة والحرية، وذات يوم من أيام الله عشية، نالته أيدي الغدر الهمجية، أيدي ترتدي بدلا رسمية، كتب عليها “الأمن الوطني”. فيا لغرابة الأحوال، ويا لغرابة الجواب عندما يطرح السؤال، أي أمن هذا الذي يقتل أبناء بلده؟
مرت سنتان على استشهاد كمال عماري المقتول غدرا، وطفت هنا وهناك أسأل الناس في المسألة لعلي أجد أجوبة تساعدني على فهم القضية وأخذ العبر . وقفت بباب عائلة الشهيد فإذا هي أسرة كآلاف الأسر المغربية، ضيق عيش، وعزة نفس، وإيمان بقضاء الله، وعزيمة ماضية لمعرفة الحقيقة. ولا أخفيكم فقد كانت هذه الأجوبة كصخرة هوت على ظهري وتعلمت درسا لن أنساه. ومن هناك مررت بشباب قيل لي إنهم من جماعة العدل والإحسان، فقلت في نفسي لقد كان كمال منهم، فلماذا لا أستفسرهم؟ لعلي أعرف شيئا جديدا، فكان الجواب وفاء وثباتا وصمودا وعزما على مواصلة الطريق بلا تبديل ولا تغيير، وكلهم يتمنون الشهادة مصيرا.
فعدت من حيث انطلقت أول مرة، وبينما أنا أسير وأفكر فيما سمعته، فإذا بصوت من داخلي يناديني يقول: أنا كمال، أنا شهيد الحرية، لم أرض الذل وفضلت الموت على العيشة الدنية، ولم أركع لظالم وركعت لله فأكرمني بالشهادة ونعمت العطية.
فعاودت السير وأنا أتلوا قول الله عز وجل: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ أَفَلَا تَعْقِلُونَ القصص 60.