قصة الوجود
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .
ابيضت الوجوه من السكينة والأمن وبما سقوا من الأنوار القدسية، حصل لهم الرضا الخالد فتنعمت الذات والروح، أشرقت الأرواح بنور ربها ورجعت حيث الكرامة وسعادة اللقاء: لذة النظر إلى وجه الله الكريم، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ، يُستقبلون بالسلام من السلام سبحانه بعد سفر طويل وأطوار عديدة وعوالم مهولة عظيمة، قصة الوجود تنتهي في هذه الحياة الدنيا بخروج الروح من مادة التراب وعالم الفناء، ذلك الجسد الذي طالما رافقناه وصاحبناه وعاش معنا لسنين وعقود يرحل عنا اليوم ويغيب بلا أمل في العودة إلينا، الأم والوالد والحبيب والصاحب وأنا وأنت..، الكل أوراق في شجرة هذا الوجود نتساقط تباعا بأمر الحكيم القدير المتعال، هذا الوجود الذي من مظهره الاختبار المتواصل والابتلاء المتنوع وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِالصَّابِرِينَ. ينتهي هذا الطور وتنقطع مرحلته بالموت المحتم كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وإِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ، لتحرر الروح من سجن الجسد إلى جنة الواحد الصمد “الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر” 1 ، فيا أيها الراجون ربهم: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
عن أبي زيد رضي الله عنه قال: “صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن” 2 . وعن حذيفة رضي الله عنه قال: “قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه” 3 ، هذا الإخبار المحمدي العظيم كان في يوم كامل بكل ساعاته وكل لحظاته، لم يكن يتوقف فيها خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم إلا للصلاة الفريضة، أخبر صلى الله عليه وسلم عن قصة الوجود بأكملها بكل حقائقها وأحداثها وتفاصيلها، البداية والنهاية المنشأ والقصد والغاية، قصص من ضل وأخبارمن اهتدى، من أول قصة الخلق إلى النهاية، كتاب الوجود فتحه سيد الوجود صلى الله عليه وسلم صفحة صفحة وتلاه على كل من حضر ولم يترك منه شيئا، كل تفاصيل قصة هذه الحياة الدنيا وما يليها من قيامة ومعاد..، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ.
نبأ عظيم
وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه مع هذه الحياة الفانية ليعلم أصحابه في إخبار أخير، لَمَّحَ ولم يصرح رقة منه صلى الله عليه وسلم وشفقة بصحبه أن يُعْلِمهم أنه راحل عنهم اليوم إلى ربه وهو يعرف أن هذا الرحيل لاتكاد تطيقه قلوبهم أو تتحمله: “إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ماعنده فاختار ذلك العبد ماعند الله” 4 بكى الصديق أبي بكر رضي الله عنه حينها وقد عرف حقيقة الأمر..، رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رأى من آيات ربه الكبرى وفتح له مولاه مالم يفتح لأحد من العالمين يُعَلّم أصحابه رضي الله عنهم في آخر تعليم وتأديب لهم ولمن سيأتي من بعدهم أن شوقه صلى الله عليه وسلم بلغ منتداه ووصل نهايته وها هو اليوم راحل إليه سبحانه بعد أن اختاره عن كل ماسواه:نهاية الشوق وصل وإشـراق
وسعادة تخلد ونوال ولقــاء
وسوى المولى حجــب وفنـاء
يفنيه الصبح ويحل الضيـاء
لعرس طه تجلت السمـــاوات
وطرب الوجود وعم السناءصل الله على الحبيب المصطفى وعلى آله وصحبه.
أزف الرحيل
رَفَعَ السِّتر فظهر البدر المحمدي ببهاء كورقة المصحف 5 ، إشراقا صافيا، وحنانا بدفء أحن قلب خلقه الكريم، نظر في وجوه شاهدة على بقاء النور وحاملة له ولو بعد رحيل سراج القلوب، لمح الزرع الذي اشتد عوده بل أشجار الصحبة التي أورقت وأزهرت وأثمرت من كل لون روحي بهيج، ابتسم الحبيب وضحكت ملامحه الزهراء، مصابيح فاتنة بددت عتمة الفجر، افتتن الأصحاب ببهاء المصحوب المتجدد كأنه يسقى من عين جارية، ونطقت السرائر ببهجة غامرة طفت على كل الوجوه، الحبيب رجع!، الحبيب لن يغيب بعد اليوم! الحبيب سيؤمنا هذا الصبح!، الحبيب اليعسوب ها هو ذا واقف بباب الدار ينظر إلينا! هَمَّ الصِدِّيق بالرجوع للوراء وقلبه يكاد يطير من سعادة الرؤية ولذة الوصال، لكن المصحوب لم يتقدم أكثر هذه المرة، أشار على المُقَرَّبِ المَرْضِيِّ الصِدِّيق أبى بكر رضي الله عنه بالبقاء إماما وصلى بجنبه جالسا من وطأة المرض وشدة الألم، ثم نظر بعدها نظرة واحدة حانية طويلة للجمع المنير، سقى زرعه المبارك النظرة الأخيرة، ابتسم راضيا مطمئنا ثم أسدل الستر أخيرا! ليرجع من حيث أتى.. فقد حان موعد الرحيل!!. وكان آخر العهد الصلاة الجامعة بالمسجد صبحا!.
هاهي الأمانة قد اطمأن عليها، ويتركها من بعده كاملة مختومة بخاتَمِ: محمد رسول الله! على قلب كل صاحب قد طَبَعَ الخاتِمُ: محمد بنوره وسره وعهده!، ها هو محمد قد سكن القلوب إلى يوم يقبض كل ذي قلب سليم، يوم تنتهي قصة هذه الحياة الدنيا، لا خوف بعد اليوم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً، بَلَغَتِ الرسالة النهاية، وأجمل أعراس السماء وأٌقدسها قد حان موعده، قد حان موعد رحيل الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم الآن..
يا ترى أَكُلُّ هذا العبق المحمدي سيرحل من ربى المدينة أخيرا!؟، هذه الروح التي خفقت للعالمين رحمة وحنانا وهديا وزكاة ومحبة وجمالا.. ستحجب بعد يوم الإثنين الأخير!؟، وأذان بلال ألن يسمع بعد هذا اليوم!؟، وأنين جذع النخلة يوم الجمعة؟! وزيارات جبرائيل عند السحر؟! وميلاد تيجان الصديقين عند كل رؤية ومجلس ولقاء للحبيب..!؟، زرع الحبيب قد نضج واكتمل ولا زيادة بعد اليوم!، نعم كل الحرث انقضى..، ويوشك الباب أن يغلق، ولكل موسم نهاية، ولكل مائدة وقت معلوم!.
[2] رواه مسلم.\
[3] رواه مسلم.\
[4] أخرجه البخاري في فضائل الصحابة من صحيحه ومسلم والترمذي وأحمد والدارمي رحمهم الله، واللفظ للبخاري.\
[5] وصف أنس ابن مالك رضي الله عنه لوجه رسوله الله صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة الخالدة كما جاء في الصحيحين.\