جناية على المصطلحات
ألا فليعذرني سيدي الصبر أن جعلت له نعتا يثقل كاهله وهو الذي لا يحتاج إلى نعت. فالصبر من ماهيته الفاعلية والعدالة والقوة، غير أن أزمنة الفتنة المتراكمة على الأمة الإسلامية فعلت فعلها في القلب والفكر، فاحتاج المسلمون إلى وسائط مصطلحية للتفاهم.
فمصطلح “الجهاد” فقد كل معاني التعبئة والبناء ليغدو في قاموس الإعلام للإسلام مشحونا بمعاني الهمجية والعدوان، كما لم يعد مفهوم “العلم” يفي بمراد الشرع منه من غير أن تذيله بالفقرات تلو الفقرات ليفيد العلم النافع المنبثق عن العقل الحكيم المستنير برحمة القلب…
الصبر تاج
ما أكثر ما يبرر القاعدون قعودهم، والساكتون عن الحق سكوتهم، والمداهنون الظلم والاستكبار مداهنتهم بكونهم على مقام عظيم وخلق كريم هو مقام وخلق الصبر، هذا الصبر الزائف هو الذي جنى على الأمة وجعلها غثاء كغثاء السيل.مئتا مليون نملهْ
أكلت في ساعة جثة فيلْ
ولدينا مئتا مليون إنسانٍ
ينامون على قبح المذلهْ
ويفيقون على الصبر الجميلْ
مارسوا الإنشاد جيلا بعد جيلْ
ثم خاضوا الحربَ
لكنْ..
عجزوا عن قتل نمله! 1 ينسون أو تنسيهم إرادتهم الهابطة أن الصبر إنما هو تاج فوق رأس اسمه جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول المولى عز وجل: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور.
ما صبر من رضي بأنصاف الحلول، وموه على المسلمين وسمى الأشياء بغير مسمياتها: الاستبداد عنده ديمقراطية، والغاش للمسلمين حسب زعمه ولي حميم.
الوضوح والصدق قيمتان أساسيتان في مجموع الصابرين. يجب أن يُعْلِموا المسلمين ويُعَلِّموهم أن الفساد في الحكم هدَمَ أخلاق الأمة، ونخَرَ في اقتصادها، وبدَّدَ ثرواتها، وشرَّد المستضعفين، ودفع الفتيات البائسات اليائسات إلى سوق البِغـاء، وخطَـفَ لقمة العيش من أفواه الأطفال، وتسبب في تفشي البطالة والمخدرات والمرض والخمور والعهارة ومدن القصدير والرشوة والمحسوبية وطابور المشاكل. ويعلموهم أن صلاح هذا الفساد يتطلب علاجا طويلا، وجراحة متخصصة، وتجريع المريض الدواء المر، وحمله على الالتزام بالمواعد، وعلى قَبول التطبيب طوعا وكرها) 2 .
لكل مقام صبر
غير أن الصبر يختلف تمظهره باختلاف مواقع المسلم؛ أهو في مواجهة كافر استحلّ أرضه وماله وعرضه فيقتضي منه الصبر التربص بالعدو والاستعداد الكامل لبذل ماله ونفسه في سبيل الله والمستضعفين، أم هو في مواجهة عدو من بني جلدته يكيد للإسلام ولا يبين، لما يسفر بعد عداؤه للدين والوطن، ولما يمتلك المؤمنون الشروط الذاتية والموضوعية لعصيان يحق الحق ويبطل الباطل؛ فيكون المطلوب آنذاك صبر تربية وتعبئة وجهاد وبناء يسبقه ويعقبه صبر على أذى الأعداء. صبر شعاره: “كفوا أيدكم وأقيموا الصلاة”. كف يد، رديفه النصح لأئمة المسلمين وعامتهم وتفويض الأمر إلى الله. يد كفيفة عن العنف على المسلمين تقابلها يد تعمل عملها في نفسها وفي الأمة تزكية وتعليما ونصرة. والصبر لازمة ضرورية لكل ذلك.
أساس الصبر
الصبر بهذا المعنى الذي تحدثنا عنه يطلب قناعة متينة ثابتة لا يزعزعها مرور الأيام، ولا يشكك في جدواها تأخر النتائج، ولا تفت في عضدها الأحداث مهما كانت مهولة ولا الابتلاءات مهما زاغت بالأبصار وبلغت بالقلوب الحناجر.
قناعة هي التربية الإيمانية العميقة، وهي الصلة بالله الوثيقة الدائمة، وليس مجرد القناعة الفكرية بسمو القرآن وشرع القرآن وأمة القرآن. يقول الإمام عبد القادر الجيلاني رحمة الله عليه: العبد إذا صلح لله عز وجل كان معه في جميع الأحوال. يغيِّره ويبدِّله، وينقله من حال إلى حال. يصير كله معنى، يصير كله إيمانا وإيقانا ومعرفة وقربا ومشاهدة. يصير نهارا بلا ليل، ضياء بلا ظلام، صفاء بلا كدر، قلبا بلا نفْس، سرّا بلا قلب، فناء بلا وجود، غيبة بلا حضور. يصير غائبا عنهم وعنه… كل هذا أساسه الأنس بالله عز وجل. لا كلام حتى يتم هذا الأنس بينك وبينه!) 3 .
وفي الختام قطف دان لحكيم قائم سام يقول فيه: 4 كلُّ مَنْ شقَّ على أمتي
من وُلاة الأمرِ فظ زَنيمْ
أَشْقِهِ، ربِّ، ونكِّلْ به
مثلَ ذا قال الرسولُ العظِيمْ
هكذا كان حريصا بنا
ولذا سُمِّي الرؤوفَ الرحيمْ
قال: “يا رب تَرَفَّقْ بمن
وليَ الأَمْرَ بقلب سليمْ”
ذا دعاءٌ يقتضينا الوَلاَ
والبراَ من كل خَبٍّ لئيمْ
ليس من دين نبي الهُدى
صبرنا تحت العذاب المُقيمْ
صل يا ربِّ على المصطفى
أرِنا وجْهَكَ يومَ النّعيمْ